علاقات » دول أخرى

ولّي العهد والعنوان الخاطئ

في 2023/09/12

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

يُقال إنّ أسوأ قصّة استعمار بلد كبير وثري هي قصّة الهند مع بريطانيا، حيث تمكن الإنجليز من احتلال شبه القارة الهنديّة، بمساحتها الهائلة كلّها مع عدد سكانها الضخم، بطريقة الخطوة خطوة، وعبر شركة الهند البريطانيّة. كانت القصّة كلّها حول اختراق رأس البلد، والممثل في الماهاراجا والراجا والثاكور والنّواب، وعبر التأليب والفتن وشراء الولاءات، فتمكّنت الجزيرة الصغيرة الواقعة في غرب أوروبا من إحكام سيطرتها على الهند من دون أي جندي وبلا معارك.

استمر الاحتلال البريطاني للهند نحو قرنين من الزمان، وهي مدّة طويلة نسبيًا، ولم تنل الهند استقلالها إلّا بعد دفعها ضريبة الدّم الهائلة عبر ملايين الجنود ممن دعموا جبهات الحلفاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية. هذا بالإضافة إلى الموارد الهائلة التي خصمت من حياة المواطن العادي ومباشرة. وفي خضم مجاعة البنغال الهائلة، كانت بريطانيا تشحن القمح والحبوب إلى أراضيها، تاركة الجوع والموت يفتك بعشرات الملايين من الناس، والذين هم - بحسب وصف "ونستون تشرشل" رئيس الوزراء البريطاني الأشهر: "إنّني أكره الهنود، إنّهم قوم متوحّشون ويتبعون ديانة متوحّشة، كانت المجاعة خطأهم هم؛ لأنّهم يلدون مثل الأرانب"، خطأهم هذا كلفهم 3 ملايين ضحية في عام واحد فقط.

الأغرب في القصّة الهنديّة هو دور النّخب المتعلّمة والمثقفة والمتغربنة كذلك، في استمرار السّيطرة البريطانيّة كلّ تلك المدّة، ففي أوائل القرن العشرين أندلع صراع هائل بين الهنود والإنجليز بسبب تحريم الاحتلال ارتداء النعال للهنود، إذ رأوها نوعًا من "المساواة"، وبدأت حملات في أوساط المثقفين الهنود، ربما أطلقوا عليها في وقتها حملة "نضال" تطالب بإلغاء حظر ارتداء النعال، حيث يلبس الإنجليز نعالهم في أي مكان في الهند، حتى في الأماكن الدينيّة المقدّسة.

هذه الحملة انتهت إلى أقصى ما تستطيع هذه النخبة تحقيقه لوطنها، حيث سُمح للهندي بارتداء النعال إذا كان يرتدي زيًا غربيًا كاملًا. منذ البداية لم تكن تلك الطبقة تعي وتدرك أنّ المأساة في وجود الإنجليزي على أراضيهم أصلًا، وأن إعلان تفوّقه عليهم وإجبارهم على الخضوع لسلطته وقانونه ورؤيته وثقافته هو بيت القصيد وركن الأزمة. وفي كلّ مرة كان الصراع قائمًا بين احتلال وتحرير، وكانت النّخب التابعة هي التي تقوده، وكان ينتهي إلى كارثة أكبر، تلك النخب -بجملتها- تقوم على رؤى خاطئة وتحركات ارتجاليّة ولمصالح وأنانيّة ضيقة، وفوق كلّ شيء، تقدّم صورة باهتة لأصل الصراع، وحقيقة أنّها نخب تكوّنت عبر الثقافة الغربيّة، فهي كانت الأكثر ارتباطًا وحرصًا على وجود المستعمر، فشكّل فعلًا تعويقًا مستمرًا أمام تحقيق هدف الاستقلال؛ بل وحتّى طرحه...

إلى الهند؛ سافر ولّي العهد السعودي "محمّد بن سلمان" للمشاركة في فعاليّات القمّة الـ 18 لرؤساء دول وحكومات مجموعة العشرين، والتي انطلقت في بداية هذا الأسبوع، في العاصمة نيودلهي. وكما يحدث كلّ شيء في المملكة، خلال السّنوات العشر الأخيرة على الأقل، فقد جاءت المشاركة بلا عنوان ولا أجندة أهداف، وخرجت السّعودية بقرار واضح وحيد تبنّته الولايات المتّحدة الأميركيّة حول إنشاء ما قالت إنّه مشروع "ممرّ" للربط بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط.

الرئيس الأميركي "جو بايدن"، صاحب المشروع أو الاتفاقيّة الجديدة، والتي وقعت عليها كلّ من: الولايات المتحدة والسّعودية والإمارات والاتّحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، قال إنّ مشروع "ممرّ" سيغيّر قواعد اللّعبة العالميّة، ويشمل مشروعات للسكك الحديديّة وربط الموانئ البحريّة، إلى جانب خطوط لنقل الكهرباء والهيدروجين وكابلات نقل البيانات.

من المفهوم تمامًا أنّ واشنطن قلقة من مشروع "طريق الحرير" الصيني الهائل، وتحاول أن تطرح على حلفائها مشروعًا بديلًا وجذابًا، لخلخلة القفزة الصينية الكبرى إلى الشرق الأوسط، وسعيًا لتحسين صورتها في العالم العربي بالذات، من قوة مهيمنة تسعى لامتصاص الثروات إلى الدولة التي تمدّ يدها بمشروعات التعاون المفيدة للجميع على طريقة "الكلّ يربح". وهي الطريقة الصينيّة التي منحتها مساحات هائلة من الوجود والتأثير في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط.

لكن.. هل سيفيد المشروع الأميركي الجديد السّعوديّة بالفعل، أم أنّه مجرد سلمة جديدة على طريق تطبيع العلاقات بينها وبين دولة الاحتلال؟.. وهي هدف إستراتيجي أميركي، وهل يُفهم من المشروع الجديد أنّه سيوصل بين أغلب دول الشرق الأوسط، وبالطبع لن يستثني أحدًا، أم أنّه مجرد خطوة جديدة تعكس تخبطًا سعوديًا ليس بجديد في مجال إدارة السّياسة الخارجيّة؟!..

خلال وجود ولّي العهد السّعودي "محمّد بن سلمان" في الهند، وبغير مصادفة، استخدمت رئيسة الهند "دروبادي مورمو" كلمة "رئيس بهارات" بدلًا من "رئيس الهند" في الدعوات الموجهة لقادة مجموعة العشرين لحضور حفل العشاء الرسمي للقمّة، وهي سقطة أخرى للسياسة الخارجية السّعودية، والتي لا تعلم أو لا تتعلّم من المفاجآت.

المصطلح الجديد "بهارات" يُقصد به القطيعة مع المرحلة العلمانيّة في حكم الهند، خصوصًا خلال فترة حكم حزب المؤتمر، وتمثل انتصارًا للقوميين المتشددين الهندوس، الذين يمثلهم رئيس الوزراء الحالي "ناريندرا مودي" وحزبه المتطرف "بهاراتيا جاناتا"، وهم يسعون بكلّ قوة وحماسة لمسح آثار وبقايا الحكم الإسلامي الذي كان يومًا هناك.. هل يدري المسؤولون عن السّياسة الخارجيّة السّعوديّة أنّهم يمثلون أهم بلد إسلامي، والذي يحتضن أقدس الأماكن الدينيّة، وهل يعلمون أنّ موقفهم هذا يُخصم من رصيد المسلمين في شبه القارة الهنديّة، أم أنهم –كالعادة- نائمون؟!!!