دول » عُمان

جمال الطبيعة الخلاب .. المقومات السياحية .. واقع الاستثمار في القطاع السياحي (6ـ17)

في 2016/01/18

سعود بن علي الحارثي- الوطن العمانية-

كانت المياه في بطن الوادي تتناقص تدريجيا أمام نظرنا واستمتاعنا بها، ومع ذلك التراجع في المنسوب تصبح أكثر نقاء وصفاء وبريقا يتفاعل مع أشعة الشمس المائلة إلى الغروب مشكلا مشهدا مذهلا وبديعا, ومع انخفاض الجريان المتدفق يتفرع المجرى الرئيسي إلى جداول أصغر تلتحم في مكان وتفترق في آخر وفقا لاستواء قاعدة الوادي من عدمه.

سادسا: قرية بعي بولاية العامرات.
كانت سحب التكونات المحلية في فترة ما بعد الظهر وفي يوم صيف قائظ تلتئم وتتفرق وتجتمع تارة أخرى، تفاعلا مع الظروف المصاحبة لها من رطوبة وتيارات هوائية وضغط وتسخين … وكانت عيون الهواة ومحبي الأمطار وأصحاب الخبرة في هذا المجال الواسع، ومنها تحديد موقع السحب وسقوط الأمطار ومنسوبها وتتبعها تراقب استواء وتهيؤ تلك السحب واجتماعها وتشكلها إلى أن تصل إلى لحظة انهمار مطرها, وكنت واحدا من بين هؤلاء, وما أن اطمأننت بعد متابعة دقيقة إلى مستوى الأمطار التي تحملها والكميات التي تسقطها فعلا وموقعها حتى أعددت للرحلة عدتها وتوجهت مع أسرتي متتبعا أثرها, ووفقا لذلك أخذت طريق بوشر ـ العامرات ومنها إلى قرية بعي التي تحتضنها الجبال من كل صوب فلا تراها العين إلا بعد عبور البوابة الرئيسية أو المدخل المهيب لتلكم الجبال التي تعد فاصلا بين ولاية العامرات من جهة وولايتي بدبد في محافظة الداخلية ودماء الطائيين في محافظة شمال الشرقية من جهة أخرى، ومنبعا أساسيا للعديد من الأودية الكبيرة التي شكلت عاملا أساسيا للخسائر المادية في الأنواء المناخية التي مرت بها السلطنة في عامي 2007 و2010. كانت الأمطار قد سبقتنا، ويبدو أنها توقفت قبل دقائق من وصولنا إلى القرية الجميلة التي تتفرد بمناظر ومشاهد ومقومات سياحية فرضها: الموقع الاستثنائي بين الجبال الشاهقة وانحدار شلالاتها من عليائها وقت الأمطار والرائحة الزكية المنبعثة من أعشابها البرية وأشجارها الجبلية التي تستخدم لعلاجات وأغراض عديدة, قربها من العاصمة مسقط وإمكانية الوصول إليها وزيارتها في أي وقت كان, سورها الحجري البديع الذي شيد على جانبي الطريق والفاصل بينه وبين بساتين ومزارع النخيل والسفرجل والحمضيات وغيرها من الزراعات الموسمية حماية لها من الوادي الذي يفصلها إلى قسمين رئيسيين, الطريق الذي شق في وسطها ما بين النخيل والأشجار الوارفة, والذي يعد من جانب آخر مسارا أساسيا للوادي أثناء جريانه وسيلانه الخفيف الذي يستمر لأيام وأشهر في مواسم الخصب, بساتينها الخضراء وكثافة أشجارها ومزروعاتها التي تصدح في أغصانها العصافير وتطير بحرية ويسر وسعادة في أنحاء المكان, بساطة أهلها وترحيبهم بالزائر وكرمهم الحاتمي الذي يظهر في إصرارهم على استضافته, تخطيطها المنسجم مع مكونات الطبيعة المحيطة بها والتي تبث في نفوس الزائرين والسياح شعورا بالطمأنينة والراحة ومستوى مرضيا من الاستمتاع والاسترخاء اللذين يحتاجهما الإنسان، ويوصي بهما الأطباء للتشافي من ضغوط الحياة وإرهاصاتها ومتطلباتها، والانغماس في دروبها الواسعة التي تشعبت وتعقدت في عصرنا الراهن، والخروج من ضوضاء المدينة وصخبها, واستقطاع الوقت وتوظيف عناصر الطبيعة في التفكر في ملكوت الله وخلقه وما حبا به بلادنا من نعم واسعة ومقومات تستحق النظر إليها، واستثمارها والتمتع بها وطرح التساؤلات التي يفرضها هدوء المكان وجماليات الطبيعة وإجراء المقارنات بين القرية والمدينة من حيث البساطة في الحياة وصخبها, متطلبات الإنسان الأساسية وراحة باله وسعادته وأهمية المواءمة بينها وبين التطلع والأمنيات من جهة والواقع وطبيعة البشر من جهة أخرى, والحد أو التخفيف مما يعتريها من شغف وطغيان المظاهر والوجاهة والتشبث بالمنصب والنفوذ وهدر الوقت والجهد والتفكير والسعاة والعمر في جمع الأموال التي تأخذ جل اهتمامه وتستحوذ على معظم وقته, الاستجابة والشغف بجماليات المكان وهدوئه وما يضخه من شعور بالانشراح والبهجة والسعادة وكأن المرء قد ولد من جديد, أحاسيس لا يقدرها ولا يفهمها ولا يعي آثارها إلا من عايشها وخاض غمارها. كانت الشلالات تنحدر من قمم وسفوح الجبال لتلتقي في مجاري الشعاب، وتلتئم بعد ذلك في محطتها الأخيرة في مسار الوادي الرئيسي للقرية, رائحة المطر المنبعثة من البساتين والأعشاب البرية والشجيرات الجبلية والجدران الطينية تنقلها نسمات الهواء العليل فتنعش القلوب وتبهج النفوس وتسعد الأرواح, كل جزء وحركة ومشهد في هذا المكان له معنى ودلالة، ويدعو إلى النظر والتفكر والتدبر والاستمتاع. على حافة الوادي المتدفقة مياهه بقوة افترشنا رملة ناعمة وأنزلنا دلال القهوة والشاي ورطبا جنيا تراوح لونه بين الأحمر والأصفر وما تيسر من أصناف أخرى, وقد تخيل لنا بأن المكان بأسره ملك لنا والطبيعة تلبس أبهى ما تمتلكه من حلل وهي تتزين لنا وحدنا دونا عن بقية البشر، وأن لا مكان في العالم يعادله جمالا وحسنا وبهاء … كانت المياه في بطن الوادي تتناقص تدريجيا أمام نظرنا واستمتاعنا بها، ومع ذلك التراجع في المنسوب تصبح أكثر نقاء وصفاء وبريقا يتفاعل مع أشعة الشمس المائلة إلى الغروب مشكلا مشهدا مذهلا وبديعا, ومع انخفاض الجريان المتدفق يتفرع المجرى الرئيسي إلى جداول أصغر تلتحم في مكان وتفترق في آخر وفقا لاستواء قاعدة الوادي من عدمه, قضينا صلاة المغرب هنا بجنب الوادي وغادرنا بعدها قافلين إلى مسقط، والحديث في مجمله عن قرية بعي وجمالها خاصة بعد الأمطار وعن الطبيعة البكر الغنية بالتنوع والتي تحتاج إلى من يكتشفها.