مجتمع » أسرة

رؤية في الوسطية

في 2016/08/12

على صعيد التنشئة الأسرية الأولى، هناك جملة طباع عندما تزرع في الإنسان صغيراً من شأنها غرس روح الوسطية لديه عند الكبر. من ذلك، تعليمه حب الآخرين، والاصغاء إليهم، واحترامهم، وعدم المس بخصوصياتهم، وعمل الخير للناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا

ما الذي تعنيه الوسطية؟ وهل هي ضرورة أم خيار؟ ومتى يصبح الفرد وسطياً؟

تعني الوسطية في اللغة الوقوف في المركز الوسط، لكن ليس هذا هو تعريفها.

إن الوسطية في تعريفها الأولي هي: اتزان السلوك وضبط ايقاعاته، كمحصلة لتوازن إدراكي لدى الفرد أو الجماعة.

والوسطية، في هذا السياق المفاهيمي، تمثل صفة سيكيولوجية، ومنحى اجتماعيا، تتجلى مسلكياً في ضوء خيار ثقافي معين، تنبع منه، وتلتصق به، وتشير إليه، وتعبر عنه.

وفي تجلياتها الأكثر دلالة، تترجم الوسطية سلوكاً أيديولوجياً خاصاً، لدى الأفراد والكيانات والهيئات المختلفة.

كذلك، يُمكن النظر إلى الوسطية باعتبارها خياراً سياسياً خاصاً، أو هكذا يُمكننا القول على نحو مبدئي.

إن الصورة النقيضة لذلك هي التطرف، بما هو ابتعاد عن المركز الوسط بالمعنى اللغوي، وبما هو تعبير عن فقدان التماسك النفسي والعقلي، المسبب لاضطراب الرؤية والسلوك أو الشطط في سياقه الكلي والمجمل.

ومن هنا، تبدو الوسطية ضرورة وليست مجرد خيار.

ومتى يكون الفرد وسطياً؟

لا تبدو الإجابة عن هذا السؤال بالأمر اليسير.

علينا بداية التمييز بين الطريق إلى الوسطية، وبين تجلياتها المسلكية حين الوصول إليها.

في السطور التالية، سوف نتعرض بإيجاز للبعد الأول، وفق ما يتسع المجال.

تقليدياً، تحال هذه المسألة إلى عوامل التنشئة الأسرية الأولى. وبعد ذلك البيئة المدرسية والجامعية، ودور وسائل الإعلام، والفضاء الاجتماعي المباشر.

هذه الإحالة تبدو نمطية بعض الشيء، لكنها واقعية، وربما أمكن القول إنها ذات بعد تأصيلي.

على صعيد التنشئة الأسرية الأولى، هناك جملة طباع عندما تزرع في الإنسان صغيراً من شأنها غرس روح الوسطية لديه عند الكبر.

من ذلك، تعليمه حب الآخرين، والاصغاء إليهم، واحترامهم، وعدم المس بخصوصياتهم، وعمل الخير للناس ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

هذه لبنات رئيسية في التنشئة المؤسسة لبناء جيل متسامح، بعيد عن الغلو والتطرف، والشطط، يغدو الفرد فيه ذا شخصية متوازنة، فكرياً ونفسياً، وبالضرورة مسلكياً أيضاً.

ومن المسؤول عن ذلك؟

إنها الأسرة، الآباء والأمهات، وكل من هو في حكم الموجه العائلي.

وهل الأسرة قادرة على ذلك بالضرورة؟

نعم هي قادرة على ذلك. هذه المسألة لا ترتبط بالمكانة العلمية، بل بمدى العودة للجذور والأصول الأولى، حيث الدين والمخزون الثقافي التاريخي للمجتمع، الذي أثبت قدرته، على مدى عصور، على بناء الإنسان المتزن والمستقيم، الذي لا يرى نفسه بعيداً عن مجتمعه، أو عن عمل الخير، واستتباعاً عشق كل ما هو جميل في هذه الحياة، والبعد عن كل ما من شأنه الإساءة لجمالها.

هذه قضية رئيسية على المستوى الأسري، أو التنشئة الأولى، وعلى وسائل الإعلام لفت انتباه الآباء والأمهات إليها.

وبعد ذلك، ماذا عن المدرسة؟

هنا، تبدو القضية مختلفة على مستوى الشكل والمضمون.

لا يمكن للمدرسة أن تتقمص دور الأسرة، ولا ينبغي لها ذلك في الأصل.

منذ السنة الأولى للمدرسة، يبدو المربي معنياً بمخاطبة عقل الطفل، وتوعيته وفق أصول منطقية، ليستنتج ذاتياً، ويفكر، وتنمو مداركه الذهنية، ويبدأ بالتمييز بين الخطأ والصواب.

هذه هي جوهر العملية التعليمية، وأصلها الفلسفي الأول. ولا فرق في مبدئها بين تعليم ابتدائي أو ما فوق ابتدائي.

المدرسة معنية بالضرورة ببناء الأصول الأولى للتفكير، والتحليل العقلي، والقدرة الذاتية على التمييز لدى الفرد.

إن مهام المدرسة الأساسية أن يتخرج الفرد من فصولها الأولى ولديه القدرة على التمييز بين الخطأ (كمبدأ) والصواب، مثل قدرته على التمييز بين الألوان.

قد يقول البعض إننا بصدد تحميل المدرسة أكثر مما تحتمل.

الحقيقة ليست هكذا. هذا هو جوهر التعليم المدرسي وفلسفته. ومن دونه يبقى الفرد تائهاً، لا يدرك ما حوله، حتى وإن جرى حشوه بمئات الكتب.

إن التعليم ليس تلقيناً ولا حفظ نصوص أو معادلات علمية مسلّم بها. هذا مفهوم يجب تجاوزه وإلا أضعنا جيلاً بكامله.

من لا يمتلك القدرة على المقارنة العقلية بين الأشياء، ومعرفة مدى الصواب أو الخطأ فيها، هو إنسان أمي بالمعنى الحضاري، وهو شخص يُمكن للآخرين اقتياده إلى طريق الضلال والتغرير به، وتوجيه مساره خلافاً لمصلحته الحقيقية، ومصلحة وطنه وشعبه.

هذه هي المرحلة الثانية في مسار المقدمات الدافعة باتجاه خلق الشخصية المتماسكة نفسياً ومسلكياً، والبعيدة عن الشطط والتطرف.

ومرة أخرى، يجب التنبيه إلى حقيقة أن المدرسة هي المعنية بصناعة التفكير، وهي لا تمثل بيئة ارشادية عامة. ودورها حاسم في الوجهة التي يغدو عليها جيل الفتية والشباب.

وإذا كان هناك من المدارس من لا تجد نفسها معنية ببناء مدركات التفكير وأسسه لدى التلميذ، فإنها في الحقيقة تعيش خارج العصر، ولا صلة لها بالبناء الوطني.

المرحلة الثالثة في المقدمات، تبدو ذات مروحة عريضة، وتعنى بها منظومة من المؤسسات، بينها الجامعة والإعلام وهيئات المجتمع المدني.

في هذه المرحلة، نجد أنفسنا أمام مهمة مقاربة القضايا الكبرى، التي يعني الإيمان بها تمسكاً بالوسطية أو انحيازاً إلى التطرف والشطط.

هذه المرحلة تعني الدخول في مقاربات علمية لقضايا من قبيل الوحدة الوطنية والتعايش الأهلي، والأمن القومي والسلم الاجتماعي، والتحديات الطارئة والمستجدة التي تواجه المجتمع، وفلسفة النهضة الاجتماعية، والتنمية، وسلم الأولويات الراهنة، وماهية الفضاء العالمي والإقليمي، والنظام الدولي والعلاقات الدولية، والثورة الرقمية.. الخ.

إن هذه القضايا، أو بعضا منها، يمكن أن تغدو موضع تثقيف موجه للشباب، على نحو يوضح حقيقة العصر الذي نعيشه، وكيفية مقاربته مقاربة بناءة، تؤكد الثوابت الوطنية والدينية، وتحترم الآخر وخصوصياته، وتستفيد من إنجازات الحضارة الإنسانية.

إن الشباب لن يدرك ذاتياً، ومن جراء تثقيف شخصي، هذه القضايا، ولا يُمكن التعويل أو الرهان على ذلك. وهو بالضرورة بحاجة إلى جهد منهجي تنهض به مؤسسات وكيانات معنية، ذات قدرات متخصصة، كل حسب مجاله.

إن العلاقة بين إدراك هذه القضايا، وبين بناء المجتمع المتماسك، الذي تسود أبناءه روح التسامح والمحبة، والبعيد عن خطر الوقوع في تيارات الغلو والتطرف، هي علاقة وثيقة ومتقدمة، بل تبدو شرطية في بعض تجلياتها.

إن الإنسان المدرك لجوهر القضايا الكبرى وفلسفتها هو إنسان يصعب على الآخرين تضليله أو الزج به في دروب التيه والضياع.

إن الوعي الاجتماعي والسياسي يعدان حصانة ذاتية للفرد تقيه شر المسارات الضالة، كما يعتبران، في الوقت ذاته، أحد روافد الحس الوطني وسبل تنميته.

بالطبع، ليس خافياً أننا بصدد مهمة كبيرة بالمعيار الوطني، وإنجازها يتطلب تعاون المؤسسات العامة والخاصة والتنسيق بينها، وتعاون المجتمع الأهلي فيما بينه، كما يتطلب الارتقاء المستمر بالعملية التعليمية على المستوى الجامعي، وتوسيع مروحة اهتماماتها.

وكما المدرسة، كذلك الجامعة، لا بد أن تكون ذات علاقة تفاعلية بالمجتمع والتحديات المحيطة به. ولا بد أن تكون مخرجات عمليتها التعليمية مستجيبة لهذه التحديات على نحو خلاق، ومن ذلك غرس قيم التسامح لدى جيل الشباب، انطلاقاً من الوعي العلمي بالعصر وقضاياه.

هذه مهمة ينبغي التأكيد عليها.

وخلاصة، فإن الوسطية في حياة الفرد لا تتحقق على نحو عفوي دون أخذ مدرك ومنهجي بمقدماتها.

صحيح تماماً القول بأن الوسطية تنسجم في جوهرها مع الفطرة الإنسانية وتدل عليها، لكن هذه هي البذرة الأولى وحسب. ولا يجوز الركون إلى القول بأن الإنسان وسطي بطبعه، ففي ذلك تبسيط مخل، وتجاهل لحقيقة الأخطار المحيطة بتنشئة الفرد في عصر بالغ التعقيد.

إن لكل من الأسرة والمدرسة والجامعة، والإعلام، وهيئات المجتمع المدني، دوراً في صناعة المقدمات. ومتى تحققت هذه المقدمات، نكون قد صنعنا المجتمع الذي تسوده روح المحبة والالفة واحترام الآخر؛ المجتمع الذي يصعب اختراقه من قبل تيارات الغلو والتطرف. وهذه من أولويات الأمن القومي للأمم المختلفة،

والنجاح فيها يعني كسب المستقبل.

عبد الجليل زيد المرهون- الرياض السعودية-