دول » السعودية

حول صناعة الإرهاب

في 2015/12/15

بدر العامر- الوطن السعودية-    

من السهولة أن نرمي مشكلاتنا على أعدائنا ونبرئ أنفسنا، ولكن هذا لن يزيد الأمر إلا تعقيدا، فلا تعارض بين المسؤولية الفكرية عن نشوء حالة الإرهاب وبين توظيف الأعداء والخصوم لهؤلاء الغلاة في تنفيذ أجنداتهم

إن كل جهود تبذل في الدفاع عن "الإسلام" وتنقيته من الإرهاب والتطرف، وتبرئة تعاليمه من صناعة التطرف والمتطرفين فهو جهد مشكور، وعمل مبرور، وهو جزء من الجهاد المعرفي الذي يثاب عليه الإنسان، ويبلغ فيه مصاف العدول الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".

ومع قناعتنا أن الإسلام بريء من هذه الأفكار، إلا أن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها في النظر إلى نصوص الشريعة، والسياق التاريخي للأديان، وحركة الأتباع بين الموافقة والمخالفة لما جاءت به الأنبياء يدرك أن أصل التطرف هو: نزعة وجدانية إيمانية تأتي على الشخص فيبالغ في حمل الإسلام حتى يخرج عن إطار المقتضى الشرعي، ولذا جاء التحذير من "الغلو" في نصوص الكتاب والسنة بكثرة لأنه أمر واقع لا محالة في الأمة، ابتدأ في زمن النبي عليه السلام، وتضخم وانتشر في زمن الصحابة، وعانى منه التابعون، وتطاول ظهوراً في كل مرحلة من مراحل التاريخ، وتجسد ببدع قولية وعملية تخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأعمال، من قضايا الاعتقاد ومن قضايا العمل، حتى إن نفرا من هؤلاء "تقالوا" عمل النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوا زوجاته عن عمله، وشطوا عن درب الهداية حتى أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن من رغب عن سنته فليس منه، إنكاراً لأفعالهم في زمن مبكر من البعثة النبوية.

إن هذا النوع من التطرف ينشأ من حالة "معرفية " تؤثر في الوعي والفهم الشرعي لتنتج سلوكاً شاذاً ومتطرفاً قد يؤدي في أحيان إلى القتل واستحلال الدماء والخروج على جماعة المسلمين فكراً عملاً، ينشأ بلا مؤثر خارجي، ويكون منبعه النفس الأمارة بالسوء، والفكر المعوج، والطبيعة الذاتية القاسية، والتصورات الخاطئة، والهوى الخفي الذي يجعل هذا المتطرف الغالي يبحث دائماً عما يعزز فكرته ويقوي حجته، ثم تتشاكل الأنفس عبر تيار يتقاطع أصحابه بهذه الأفكار والنفسيات حتى تقوم منظوماته الفكرية والسياسية بناء على متتالية من الانحرافات الفكرية والشرعية والسياسة، وهذا هو حال هذه الجماعات عبر التاريخ الإسلامي إلى اليوم.

إننا إن أردنا أن نتلمس مصادر الإرهاب، فعلينا أن نكون موضوعيين في بحثنا، وأن نكون صادقين في استكناه الأسس التي تقوم عليها هذه الجماعات، وأن نتحمل تبعات الإصلاح التي قد تتعارض مع أفكار ومصالح وشخصيات، وأن نعيد قراءة "اللحظات التاريخية" التي تتشكل فيها الأفكار ثم تتدحرج حتى تكبر وتتطور عبر الزمان والمكان، وهذا يحتاج إلى كد وجهد معرفي في قراءة مقررات هذه الجماعات وأفكارها، وترحلاتها وتشكلاتها التاريخية، وأثر المنظرين عليها، وأسبابها الفكرية المباشرة وغير المباشرة حتى نستطيع أن نوجد الدواء بعد التشخيص الدقيق للداء.

ومن السهولة بمكان أن نرمي مشكلاتنا على أعدائنا، ونبرئ أنفسنا، ولكن هذا لن يزيد الأمر إلا تعقيداً، فالأعداء وإن كانوا يتحينون الفرصة في كل حين للانقضاض علينا، والاستفادة من تناقضاتنا، وتشوهاتنا، وتفرقنا، وغلاتنا، إلا أن الداء الأصلي هو المؤثر في نفوذ الأعداء، فلا تعارض بين المسؤولية الفكرية عن نشوء حالة الإرهاب وبين توظيف الأعداء والخصوم لهؤلاء الغلاة في تنفيذ أجنداتهم، إذ لا يجد الأعداء مركوباً سهلاً مثل هؤلاء الذين يجمعون بين الجهل والحمق والشدة وحداثة السن وقلة التجربة التي تجعلهم يركبون بسهولة ويسر، فيوجهون أفكار هذه الجماعات وقادتها ومنظريها إلى مشروعات تخدم مشروعاتهم وتشوه خصومهم وتفد في عضدهم.

ومن ينظر في أدبيات هذه الجماعات بعناية يدرك أنها حلقة متسلسلة من الأفكار المتشابهة، وأن منبعها واحد قد تختلف أشكالها وظهورها وخفاؤها في زمن دون زمن، ولكنها في النهاية تنطلق من منطلق كلي، وتصب في مصب واحد، وهي ذات طبيعة متشابهة وتركيبة واحدة مع اختلاف الظروف والأحوال.

ومع الإقرار بهذا الجانب الفكري والوجداني في نشوء الحركات الغالية إلا أن تهيئة الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية لها يزيدها نفوذاً وانتشاراً، فتصبح شمولية الحل أمراً متحتماً، إلا أن الأسباب ليست على نسق ومستوى واحد في قوة التأثير، فمعالجة المشكلات من أساسها الأولي الطبيعي هو الذي يسهم في تجفيف كل العوامل التي تؤدي إلى التوظيف والاستقطاب للأتباع، ولكن الناس في الغالب تلجأ إلى المسارات المؤاتية الهينة وتتحاشى المسارات المعقدة والمكلفة، فينهش فيها المرض دون أن تعرف أسبابه حتى يقضي عليها على حين غفلة.

ولعلي في مقالات لاحقة أحاول تلمس هذه الأصول الفكرية المعاصرة والأفكار التي أنتجت هذه الجماعات وكيفية تشكلها وانتشارها والفروقات الدقيقة بينها.