دعوة » دراسات

لا كهنوتية ولا وصاية على الدين

في 2015/10/06

سطام المقرن- الوطن-

بالرغم من تحذير الإسلام من الكهنوتية، إلا أن في عالمنا الإسلامي من يطرح نفسه وكأنه مخزن الأسرار الإلهية، وله ارتباط بعالم الغيب، ويعلم بأمور لا ينبغي للآخرين أن يعلموا بها تعرف كلمة "كاهن" في اللغة بالذي يقضي الغيب ويدعي معرفة أسراره وأحواله، ومفهوم الكهانة في اليهودية مشتق من الكلمة العبرية "كوهين" أي المنبئ بأمر الرب، والكاهن له منزله النبي وله امتيازات اجتماعية ودينية، فالكاهن مؤتمن على الشريعة ومسموح له بتقديم الذبائح إلى الله للتكفير وحمل خطايا الشعب كما ورد في سفر اللاويين وفي تعاليم الرسل في العهد الجديد، ومن مفهوم الكهانة في المسيحية هو رجل الدين المسؤول عن خدمة الأسرار المقدسة، وهو مختار من الله.

وفي الجاهلية ظن العرب أن الكاهن هو الشخص المقرب إلى الآلهة، وهو القادر وحده على قراءة الغيب، واستطلاع الأخبار، والتنبؤ بالمستقبل، وهو رجل دين وساحر، باستطاعته التغلب على الأرواح الشريرة وطردها، وهو الحكيم الذي يرى حقيقة الأشياء، وكان الكاهن يعد واسطة أو شفيعا يتقرب به الناس إلى الآلهة، وروي في التاريخ أن الكاهنة "طريفة" أمرت عمرو بن عامر أن يهاجر ويغادر الديار، وذلك لأنها "رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب، وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين، فباع عمرو بن عامر أمواله وسار وهو وقومه من بلد إلى بلد".

وعلى هذا الأساس، انقاد الناس للكاهن وأباحوا له أموالهم وأملاكهم وأنفسهم طواعية وتفانوا بالدفاع عنه، ليس خوفا منه أو طمعا في عطاياه، وإنما اعتقادا منهم بأنهم سيحظون برضا الله والجنة في اليوم الآخر، ونتيجة ذلك استغل الكهنة هذا الاعتقاد السائد بين الناس، فأكلوا أموالهم بالباطل، وتلاعبوا بدين الله، وأثاروا الحروب والفتن والكراهية بين الناس.

وقد جاء الإسلام لإزالة السلطة الكهنوتية الظالمة، وبيان حقيقة الكهنة للناس الذين هم أعداء الدين وأعداء الإصلاح في كل زمان ومكان، يقول الله -عز وجل- عن قوم نوح (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا)، فالناس لم تصغ إلى نوح، عليه السلام، واتبعوا ما يشرعه لهم الكهنة والتي أدت إلى تضليل الناس وضلالهم، كما جاء في قوله تعالى (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا).

وعن السلطة الدينية للكاهن التي ينقاد إليها الناس طواعية، يقول الله، عز وجل: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله)، وعن الذين يعتقدون بأن للكهنة مزايا ومواهب خاصة في فهم دين الله لا يعلمها إلا هم، فتحول الكهنة إلى أرباب من دون الله (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).

وقد فضح الإسلام الكهنة، وما يحصلون عليه من مال وجاه ونفوذ في المجتمع ومتاجرة باسم الدين، يقول الله تعالى (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)، وعن كيفية تلاعبهم بالنصوص الدينية من خلال تأويل معاني تلك النصوص لتبدوا وكأنها تتحدث عن تشريعاتهم في قوله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون).

ومع هذا، وبالرغم من تحذير الإسلام من الكهنة والكهنوتية، إلا أن في عالمنا الإسلامي من يطرح نفسه بهالة من الأسرار والغيبيات وكأنه مخزن الأسرار الإلهية وله ارتباط بعالم الغيب، ويعلم بأمور لا ينبغي للآخرين أن يعلموا بها، فظهر في المجتمعات الإسلامية مفسرو الأحلام والتنبؤ بالمستقبل، وكذلك ظهر طاردو الجن والعفاريت، بالإضافة إلى لتقديس الآراء البشرية وتحريم نقدها، ناهيك عن تقديس رجل الدين نفسه.

فقد سرى التقديس من الروايات والموروث التاريخي إلى رجل الدين وفتاواه التي يصدرها في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فلا يملك الفرد في المجتمع الحق في النقد أو النقاش تجاهها، ولا أحد يتجرأ عل طرح علامات الاستفهام حولها، وفي هذا الصدد يقول بعض رجال الدين: "لا ينبغي نقد أصل الدين لأنه أمر إلهي وغيبي ووحياني، وفوق مستوى العقل البشري، مضافا إلى أن نقد الدين سيؤدي إلى اهتزاز إيمان الناس وفتح الباب على الإلحاد والعبثية واللاأدرية وسيكون كل شيء مباحا".

ويرى أحد الدعاة في الرد على من يقول بظهور الكهنوتية في المجتمعات الإسلامية ما نصه: "مصطلح (رجال الدين) مصطلح غربي دخيل على الإسلام، ولا نجد في الإسلام إلا لقب (العلماء) العالمين بأحكامه، وليس هذا حكرا على أحد بعينه، بل يمكن أن يكتسبه أي مجتهد في المعرفة الصحيحة بشريعة الإسلام".

صحيح أن الدين الإسلامي يفتح الباب على عملية تنوع الآراء والاجتهادات المختلفة ويعترف بها من موقع الأصالة والرسمية، ولكن عندما تكون مواقف مذهب فكري واضحة مسبقا كأيديولوجية دينية، ففي هذه الصورة لا يمكن تحمل اجتهادات مختلفة أو تفسيرات مختلفة، وعليه تظهر طبقة مفسرة خاصة للدين ليكون قولها هو الحكم الفصل على مستوى النظرية والواقع، وهذه الأيديولوجية تتخذ فئة رجال الدين، وتظهر بصورة مجموعة من المؤدلجين المعينين، ورجال الدين بهذا المعنى يختلفون كثيرا عن رجال الدين بمعنى علماء الدين.

وبالتالي تظهر طبقة كهنوتية مقدسة تتولى تفسير الدين بحيث تكون مواقفها العقيدية والعملية ترسم الحد النهائي لتعاليم الدين، ولها مصالح شخصية خاصة، وتتعالى على النقد والتحليل والنقاش، وعلى الناس التبعية والتقليد لهم!