اقتصاد » مياه وطاقة

السوق النفطية ما بين مطرقة “السياسة” وسندان “الاقتصاد”!

في 2015/09/18

جواد البشيتي- الوطن-

حتى الآن ليس ثمة ما يشير إلى احتمال توقُّف انهيار أسعار النفط عند حدٍّ معيَّن، وإنْ توقَّع محلِّلون وخبراء اقتصاديون أنْ يستقر سعر برميل النفط عند 40 دولارًا؛ ويعزو خبراء اقتصاديون هذا الانخفاض واستمراره إلى أسباب عدة، منها: أوَّلًا، تراجع الطلب على النفط بسبب ضعف النشاط الاقتصادي في الدول المستوردة في أوروبا وآسيا. ثانيًا، وفرة العرض في الأسواق العالمية مع تحوُّل الولايات المتحدة من أكبر مستهلك للنفط في العالم إلى أحد كبار المُنْتِجِين مع دخول إنتاج النفط الصخري حيِّز التنفيذ. ثالثًا، لم تؤدِّ الحروب الدائرة في بلاد عربية نفطية إلى تهديد تدفق النفط من مكامنه إلى أسواق المستهلكين؛ فصادرات العراق النفطية لم تتأثَّر على الرغم من احتلال تنظيم الدولة الإسلامية لثلث مساحة البلاد؛ والإنتاج الليبي زاد منذ الصيف الماضي ثلاث مرَّات تقريبًا حتى بلغ 900 ألف برميل يوميًّا. رابعًا، ترتب على ارتفاع قيمة الدولار مقابل العملات الأخرى تحوُّل النفط إلى عنصر إنتاج مرتفع التكلفة بالنسبة إلى الدول المستهلكة، ما أدى إلى تراجع الطلب العالمي عليه، وتزايد الضغوط، من ثمَّ، على سعره، حتى شرع ينهار. خامسًا، فشل دول منظمة “أوبك” في ضبط توازن السوق؛ ففي آخر اجتماعاتها لم تعلن خفض الإنتاج للحد من ضغوط العرض في السوق؛ بل أبقت على حصتها الحالية من الإنتاج؛ كما عمدت بعض الدول الأعضاء (السعودية وإيران والعراق والكويت) إلى خفض أسعار نفطها حفاظًا على زبائنها الكبار في آسيا والولايات المتحدة، فبدا تصرفها هذا شبيهًا بحرب أسعار بينها.
وتُظْهِر البيانات الاقتصادية أنَّ معظم ميزانية السعودية (نحو 80%) يعتمد على إيرادات النفط، بينما تعتمد ميزانية الكويت على إيرادات النفط بما نسبته 95%. وفي المقابل، يعتمد ثُلْث ميزانية إيران فقط على مبيعات النفط؛ ويُمثِّل النفط ما نسبته 60% من صادرات إيران. وتفيد الهيئة الأميركية للمعلومات النفطية بأنَّ العقوبات المفروضة على إيران بسبب برنامجها النووي جعلت صادراتها النفطية تتراجع من 2.5 مليون برميل يوميًّا سنة 2011 إلى نحو مليون برميل يوميًّا. وعوَّضت إيران الخسائر المترتبة على تراجع صادراتها بارتفاع أسعار النفط؛ لكن الحال تغيَّرت الآن. وتطمح إيران، بعد رفع العقوبات عنها، إلى مضاعفة صادراتها النفطية. ويذهب عدد من المحلِّلين الاقتصاديين إلى أنَّ استمرار التراجع في الطلب العالمي على النفط، مع وفرة المعروض منه في الأسواق، سيكون له انعكاسات سيئة على اقتصادات الدول المُصَدِّرة للنفط، إذا لم تُبادِر هذه الدول باتِّخاذ جملة من الإجراءات الضرورية والفورية.
لقد كانت سياسة إفقار الخصم من أقدم صور الحروب الاقتصادية بين الدول في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبعد بروز العولمة الاقتصادية، وما يسمى الاقتصادات المفتوحة وحرية التجارة، اختلفت صور الحروب الاقتصادية؛ فما عاد إفقار الخصم بمنع استيراد منتجاته، وإغراق أسواقه بالسلع المستوردة، وإنما بجعل أهم موارده من السلع الاستراتيجية فاقِدةً الأهمية، فيسعى إلى بيعها بثمن بخس. وهذا هو ما يدور الآن في عالم النفط؛ فبعدما لجأت الدول الغربية إلى سلاح العقوبات الاقتصادية تجاه إيران منذ سنوات، وتجاه روسيا منذ نحو عام، بدأت منذ منتصف 2014 “حرب تفريغ سلاح النفط من فاعليته الاقتصادية”، فتراجع سعر برميل النفط بنسبة 60%، بعدما كان بحدود 104 دولارات نهاية حزيران/يونيو 2014. من قبل، حاولت إيران التغلب على العقوبات من طريق سياسة “النفط الرخيص”؛ وكان السعر المرتفع يساعدها على ذلك؛ فسعر البرميل كان فوق 100 دولار. وكانت طهران تعرِض أسعارًا أقل من ذلك للصين والهند، ولتركيا لاحقًا. وعليه، سعت هذه الدول لاستثناء إيران من العقوبات الغربية في ما يخص تلك الحصص النفطية الرخيصة. وسارت روسيا على النهج نفسه منذ توتر علاقتها بأوروبا والولايات المتحدة بسبب الأزمة الأوكرانية؛ وكانت الصين المستفيد الأكبر من ذلك. وقد كشفت العقوبات على روسيا، التي كانت تأمل استعادة مكانتها الدولية عبر مجموعتي “العشرين” و”بريكس”، أنَّ موسكو لا تمتلك مقوِّمات اقتصاد قوي؛ فعملتها تعرَّضت لانهيار كبير، فشرعت تلعب ورقة “النفط الرخيص”؛ لكن انخفاض أسعار النفط عالميًّا أفسد خطط إيران وروسيا معًا للإفادة من لعب هذه الورقة في أزمتيهما مع الغرب.
لقد نأى الرئيس أوباما بلسانه عن لغة الدبلوماسية، وتكلَّم صراحةً ومباشَرَةً وفي وضوح عن الأبعاد الحقيقية لِمَا شهدته وتشهده السوق النفطية العالمية من انهيار كبير، سريع، ومتسارِع، في أسعار النفط، فقال ضِمْنًا إنَّ هذا الانهيار كان قرارًا سياسيًّا، يستهدف إضعاف الاقتصاد الروسي الذي يعتمد بنسبة 50 في المئة على عائدات النفط، مُفَنِّدًا، من ثمَّ، ولو ضِمْنًا أيضًا، قول السعودية إنَّ ما فَعَلَتْه (أو أحجمت عن فِعْله) على الصعيد النفطي، كان لمواجهة خطر تنامي إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة؛ وكان وزير النفط السعودي قد أكَّد، غير مرَّة، أنَّ هذه “المواجهة” هي السبب الكامن في قرار السعودية (غير المُعْلَن) تَرْك سعر برميل النفط يتهاوى.
هذه المرَّة، كان “قرارًا سياسيًّا”، على ما قال ضِمْنًا الرئيس أوباما، ولم يكن شأنًا اقتصاديًّا صرفًا، أو نتيجة موضوعية مترتبة حتمًا على فِعْل قانون “العرض والطلب”؛ وقد قَوَّم الرئيس أوباما عواقبه قائلًا: “كانت له (أيْ لانهيار سعر النفط) مساهمة كبرى في التَّصدي لعدوان الرئيس الروسي بوتين على أوكرانيا (ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، و”غزو” روسيا شرق أوكرانيا).. ويُفْتَرَض الآن أنْ يتأكَّد أنَّ ما فعله بوتين كان خطأ استراتيجيًّا”.
الصين وروسيا كانتا في غَفْوَة؛ ويبدو أنَّهما قد أفاقتا من غَفْوَتهما؛ وقَبْل أنْ تَفيقا، قال وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق (ومستشار الأمن القومي) هنري كيسنجر: “ما أنْ تَفيق الصين وروسيا من غَفْوَتيهما حتى يقع الانفجار العظيم؛ وستكون حربًا لن تنتصر فيها إلاَّ قوَّة واحدة هي الولايات المتحدة”؛ أمَّا الرئيس أوباما فأعلن أنَّ الولايات المتحدة ستقود العالَم حتى نهاية القرن الحادي والعشرين؛ وتسعى الصين إلى أنْ تصبح هي القوَّة العظمى في العالم في هذا القرن.