ملفات » العلاقات السعودية الاسرائيلية

سيرك في "العُلا" .. هل تنازلت السّعودية؟

في 2024/01/15

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

لم تكن مصادفة أن يكون "عبّاس بن فرناس" إنسانًا عربيًا، لديه من الأحلام الكثير من الأدوات المنطقة الصفر، "ابن فرناس" - الفكرة هي الأوسع انتشارًا في عالمنا العربي، الجميع مقتنع أنّ الإنسان بجناحي ريش يستطيع التحليق إلى السماء، متغافلين أن الواقع والأمنية لا يلتقيان في الحقيقة؛ بل خلف غلالة الوهم والدخان يحيط بصاحبهما عمى قلبي عن رؤية الجوهر وطبيعته.

السياسة، في المملكة العربية السّعودية، اليوم، قد تنتمي بشكل ما إلى هذه الفكرة القديمة الصدئة، حول إمكان قلب الحقائق بلمسة زر من يملك القرار. وهي كارثة إذا ما قادت وطنًا يخوض معركة بقاء مع أمّته ضد عالم قائم وكامل قرر أن يعلن الحرب عليها.. وهذا ما يجري في فلسطين اليوم، بالنسبة إلى المملكة ووليّ عهدها فقد قررت الإرادة الوطنية، ببساطة، أن تريح نفسها وتذعن أسيرة الأمر الواقع القائم، وتنزل عند ما رأت من مقتضيات خيار الرضوخ التام، أمام حرب عدوانية ضد شعب عربي مسلم، تقترب من تمام يومها المئة.

حين اختار وليّ العهد أن الوقت قد حان للتغيير في المملكة، تغيير الانتماء والأفكار ومجموعة القيم العليا الراسخة، لا يبدو أنّ ثمة اهتمام صرف لتهيئة المجتمع لهذا الانقلاب الصامت على ما كان؛ بل جرى بشكل من أشكال اللصوصيّة والمصادرة الغاشمة واستبدال سياسة دولة كبيرة –في منطقتها على الأقل- مثل السّعودية من القاعات إلى أسلوب صفقات الأقبية المظلمة والعمل المتخفي والتعهدات السريّة، لا ينزل فقط بمستوى السياسة ويعرّض أهدافها للانكشاف؛ بل هو أيضًا يفقدها هيبتها وتأثيرها ويخصم منهما الكثير، في عيون مواطنيها قبل عيون أمتها.

هذا ما جرى بالضبط، خلال الأسبوع الحالي، في ما صدّرته لنا وكالة الأنباء الرسمية باسم اجتماع "المخيم الشتوي" في العلا، مع وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن". وما خرج عن هذا الاجتماع الهزلي لا شكّ أنه أغرب حوادث السياسة المعاصرة وغرائبها وشذوذها في هذا البلد، جاء بعنوان لقاء دعائي أو إعلاني أكثر ممّا هو سياسي ورسمي، ثم جاء في خيمة كرنفاليّة زاعقة الألوان تشي باحتفال من نوع ما، والجلسة كلّها ودودة بالرغم ممّا يسود المنطقة من دماء تخضب وجهها وتصبغ روحها وأيامها.

الطامة الكبرى تمثلت في روايتين لهذا الاجتماع، لتكتمل سلسلة العجائبية.. وليّ العهد رئيس مجلس الوزراء قال وفقا لـ"واس": " أهمية وقف العمليات العسكرية، وتكثيف الجهود على الصعيد الإنساني، والعمل على تهيئة الظروف لعودة الاستقرار واستعادة مسار السلام"، بعض الجمل الإنشائية التي وردت نصًا في محتوى وكالة الأنباء السّعودية الرسمية، وهي لا تحمل أي معنى بذاتها، مجرد كلمات فارغة من إرادة تستطيع أن تفعل أكثر من "الاهتمام" بقضية أخ شقيق يُذبح، وأمام الداعم الأول لكيان الاحتلال.

الطرف الأكثر صراحة كان "بلينكن"، والذي نشر روايته في مؤتمر صحفي أعقب الاجتماع، وكانت عباراته بالكامل موجهة بشكل رسائل للداخل الأميركي وللكيان على السّواء، فقال: "هناك اهتمام واضح هنا بمواصلة التطبيع"، وهذا أهم ما خرج به الوزير من اجتماعه مع الرجل الذي فجّر قنبلة "إعلان التطبيع"، قبل أن تدهسها أحداث "طوفان الأقصى" بعد أيام قلائل، وتسحق معها كلّ أوهام الوصول إلى سلام من أي نوع مع الكيان، أو يحقق أي مصلحة حتى.

ما جرى، في خيمة العلا، هو أن السّعودية قررت أن تتنازل مقدمًا ومجانًا، عن أوراق قوتها وانتمائها كلّها، وأن تنتزع ليس فقط الظفر، ولكن اللحم من اللحم، وتُظهر للعالم بهذا المظهر البائس المتفرّد عن محيطها.. ويظنّ نفسه من بلاهته أنه واثق، هذه الزيارة كلّها تصلح لتكون إعلانًا مدفوع القيمة لمدينة العلا والمشروعات القائمة هناك على جلب ضيوف أجانب بالثمن للتصوير والنشر على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، قد تكون فكرة الترفيه نفسها قد سيطرت على مفاصل القرار الوطني والسياسي كلّه في المملكة، وهي كالمجنون يقود قطيعًا من العميان إلى مصير ليس فيه شك ولا احتمال.

المأساة، في حال المملكة، أن الصراع الجاري بالنار والبارود والدم في المنطقة العربية لا يمكن إخفاؤه، مهما كان صخب الأدوات أو بريقها الملّون.. وتاليًا؛ فإنّ ما يحكم المشهد السّعودي، اليوم، هو أن التفاهة دخلت تملأ المسافة الفاصلة بين الوقائع الكبرى والمواقف الغائبة، كما أن جرعة مسكّن الترفيه زادت عن الحدود حتى تحوّلت إلى إدمان مع طول الوقت، وما بدأ كجرعة مهدئ تحوّل إلى إدمان سياسي، وازدواجية مفزعة في المنطق والمعايير والقيم، تصل في بعض الأوقات إلى درجة قبول "الدولة" تأدية دور "بهلوان السّيرك" لتسلية جمهورها أو جمهور الاجتماعات العربية والإسلامية والعالمية..!!