خاص الموقع

فيل "ابن سلمان" الأبيض

في 2023/08/15

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

تقول أسطورة، أو حكاية شعبيّة قديمة، في مملكة سيام القديمة (تايلاند الحالية) أنّ ملك سيام اعتاد إهداء أي فرد من الحاشية المغضوب عليهم أو الأمراء المكروهين فيلًا أبيض، في حال قرّر تدميره والقضاء عليه. وذلك؛ لإنّ تكلفة إيواء هذا الحيوان وإطعامه ضخمة جدًا بالنسبة إلى أي شخص. 

هذه الفكرة البليغة "الفيل الأبيض"؛ تحوّلت إلى نظريّة اقتصاديّة بالاسم ذاته عن المشروعات الكبرى التي لا تتمتّع بجدوى يُذكر، ولا تسهم بعائدات توازي ما أُنفق عليها. وفي الوقت نفسه؛ لا يمكن التخلّص منها بفعل الدّعاية الهائلة لها، وتقديمها إلى الشّعوب بصفتها رمزًا للحاكم وعنوانًا لإنجازاته، تمامًا كما كان يفعل موظّفي ملك سيام مع الفيل الأبيض، فلا يمكنهم التفريط في هذه المكرمة الملكيّة الثمينة.

من جديد؛ أضاءت مواقع أميركيّة وغربيّة على "سيناريو أميركي" للسّلام بين المملكة العربيّة السعوديّة وكيان الاحتلال الإسرائيلي. هو مشروع يقترب من أن يكون حلمًا ملكيًا للصهاينة، وبوابة ذهبيّة يستردّون بها ثقتهم بأنفسهم وبحكومة "بنيامين نتنياهو" المهتزّة، وعالم عربي سيتمزّق كما لم يتمزق في تاريخه، إن تمّت هذه الخطوة حتى النهاية.. 

لكن بالأساس ما هي تفاصيل المشروع الأميركي الجديد؟

ليس مفاجئًا أنّ واشنطن كانت ترفض، بإصرار، منح "الضوء الأخضر" لصعود الأمير "محمّد بن سلمان"، وليّ العهد، إلى عرش آل سعود. وليس جديدًا أنّ التّصريحات الأميركيّة، سواء من الرئيس "جو بايدن" أو أركان إدارته، كانت بالكامل ترفض التّعامل مع "ابن سلمان" كونه رجل المملكة القادم. وليس سرًا أنّ الأمير الطامع بكرسي الحكم قد حاول تقديم كلّ ما لديه لواشنطن، لكن الرفض ظلّ قائمًا.

ما حرّك عجلات الأحداث هو خطّة "ابن سلمان" للتطبيع مع كيان الاحتلال. هذه الخطوة توازي بالضبط رحلة الرئيس المصري الأسبق "أنور السّادات" إلى القدس، ليقدّم تحت قدمي عدوه كلّ شيء مجانًا، ويرهن مستقبل شعبه وأمّته لإرادة عدوه، ويفتح بغباء كبير بوابّات الحصون لتسقط الدّول العربيّة تباعًا وتتاليًا.. واليوم؛ مثلًا، يمكن الحكم بثقة في الخيار السّاداتي للحلّ، على مستوى ما فعله ويفعله بمصر، والتي صارت في أفضل الفروض –وأكثرها تهذيبًا- دولة مدمنة قروض.

ما هو منقول، عبر صحيفة "وول ستريت جورنال"، أنّ واشنطن والرياض قد توصلتا إلى اتفاق كامل حول إعلان التّطبيع السّعودي مع الاحتلال الصهيوني، مقابل ثلاثة مكاسب محدّدة لـــــ"محمّد بن سلمان". وهي: الموافقة على قرار انتقال العرش السّعودي إليه بضمانات أميركيّة لبقاء الحكم في "فرع السديري"، ثم انطلاق لمسار مفاوضات بين كيان الاحتلال والفلسطينيين، وأخيرًا مساعدة أميركيّة لإنشاء مشروع نووي مدني سعودي.

في هذا المشروع؛ يبدو مدى التهافت الذي وصل إليه وليّ العهد. إذ يبدو متلهفًا أكثر من اللازم، وقبل الانبطاح –تمامًا كالسّادات- مقدمًا ومجانًا لمن يفترض أن يكون به عدوًا للشعب وللأمّة، وإذا ما بلغ طرفًا في لعبة السّياسة هذا القدر من التذلّل؛ فإنّ الأخرين مدعوون إلى التشدّد وإلى إظهار الحزم والتمنع، ثم سيركلونه في نهاية الأمر... هذا هو ملخّص سيرة مثل هؤلاء الحكّام، وعبر تاريخنا القريب والبعيد.

لبيان مدى التفريط الواضح، في الثمن الفادح لخيانة الثوابت كلّها، بجملتها، فإنّ مسار التفاوض بين سلطات الحكم الفلسطينيّة والكيان المؤقت مستمر وقائم منذ تسعينيّات القرن الماضي، وحتى اليوم. لكنّه لم يصل إلى أي محطة حلول، سوى سلطة تُعدّ أقرب إلى حارس لأسوار هذا الكيان، ولم تحقق لشعبها ولا لقضيتها أي شيء. وفي الظاهر أنّ الطلب السّعودي ببدء مسار تفاوضي هو مجرد ورقة توت تحاول ستر العورة البشعة التي يقبلون عليها اليوم، فلا جدول ولا عناوين أو توقيات، لا أهداف ولا برنامج ولا خطة، باختصار لا نتيجة تُنتظر.

الأمر الثاني، أو الطلب السّعودي الثاني في انتقال الحكم من الملك سلمان إلى الابن "محمّد"، وضمانة أميركيّة برعاية هذه الخطوة، هي "احتلال فعلي". فمن يملك القدرة على منح الشرعيّة، اليوم، قد ينزعها غدًا، وإن رضت دولة ما أو نظام حكم أن يكون رأسه معيّن من واشنطن، فلن ينتظر في قادم الأيام مصيرًا أفضل من دول كثيرة حاولت بكلّ طاقتها نيل الرضا الأميركي، وكانت نهايتهم بيد شعوبهم، لم تمنع النهاية رغبة واشنطن أو تكبحها رهبتها.

الإنجاز الكبير الذي يسعى "ابن سلمان" لتسويقه محليًا هو المشروع النووي السّعودي. والولايات المتّحدة الأميركيّة قادرة على بناء هذا المشروع بسهولة ويسر، مع كفاءة التغطية الماليّة السعوديّة لمشروع "الملك الجديد" الشّخصي. وسيكون عنوانه المثير هو أنّ "ابن سلمان" تمكّن من فعل ما عجز عنه العالم العربي كلّه بامتلاك قنبلة نوويّة، أو حتى الاقتراب منها، وسيكون عاملًا مهمًا في سباقه الإقليمي المتخيّل مع إيران، وربما مع غيرها.

المشكلة أنّه حين تقرّر أمّة ما أن تصنع مشروعها النووي، فإنّها تُعدّه مشروعًا وطنيًا خالصًا للسيادة والاستقلال، مثلما حدث في الصين والهند وباكستان وكوريا الشماليّة.. هو مشروع قادر على استفزاز الكرامة الوطنيّة، وخلق محفزات العمل الجبّار عند المواطنين، كلّ المواطنين، وقهر أي عوائق أو مصاعب، وتنظيم الشّعب في عمل جماعي كبير، يملأهم بنشوة النجاح والتفوق والإيمان.

هل ستمنحنا واشنطن مشروعًا نوويًا، ربما نعم، وربما لا... ولكن واشنطن لا تثق بأي طرف في المنطقة، سوى في الكيان الصهيوني، فهل ستمنحنا واشنطن الإيمان والنجاح والقدرة على الاستقلال، بالتأكيد، وبكل حسم، لا.