خاص الموقع

أَردوغان.. خليفة يطير بأجنحة إسرائيليّة فوق العرب

في 2022/03/16

(مبارك الفقيه\ راصد الخليج)                               

مئة عام إلّا نيّف مضت على قرار كمال أتاتورك إلغاء حكم السّلطنة والخلافة في تركيا، ليُصبح بعدها نسل عثمان من أبناء وأحفاد لاجئين في دولة حكمت المنطقة العربية وأجزاء من أوروبا لمئات السنين.. وفي ظلّ ارتباك العالم في حرب تشتعل في الشرق تهدّد بإشعال النّار في الغرب وتمزيق خارطة العالم وبعثرة دولها، انطلق رجب طيب أردوغان المنتمي إلى "نسل السلاطين العثمانيين" بحسب قوله هو، ليُعاود السّعي لبناء حكم "أجداده" من جديد على أجنحة إسرائيلية، فـ"هناك ماضٍ عظيم نعتزّ به وعلينا أن نعمل على إحيائه".. هكذا جاهر بلا مواربة.

هي أجنحة، امتدّت من "هيرون" إلى "بيرقدار"، حملت طائرة مسيّرة عسكريّة، يفخر العثماني الجديد بصناعتها، وصدّرها إلى أجواء جاره السّوري لتُشارك في الحرب لإسقاط النّظام، ودعم المعارضة السورية، ولكنّه رفض مساعدة الأكراد السوريين في حربهم ضدّ تنظيم داعش، فقط لأنّهم أكراد خصماء الدّهر والتّاريخ والجغرافيا، فيما جنود عسكره ينتشرون ليكرّسوا احتلاله لأجزاء من الشمال السوري، وعينه على الشمال العراقي الغنيّ.

يدمن أردوغمان ممارسة لعبة التّجاذبات المتناقضة، ففي الوقت الذي يفتح نار التّصريحات على إسرائيل احتجاجاً على ممارساتها التعسفيّة بحقّ الشّعب الفلسطيني، وقتل مواطنين أتراك كسروا الحصار الإسرائيلي البحري على غزّة، كانت وفود عسكريّة إسرائيليّة تجول في تركيا، لتدشّن مشاريع صناعات عسكريّة مشتركة، وتضمن لأنقرة فتح خطّ تجاري يحمي نظامها الاقتصادي من السقوط بفعل العقوبات الأمريكية والحصار الأوروبي.

لم يدع أردوغان فرصة إلّا وحاول بها حشر أنفه، ولم يترك بؤرة مشتعلة إلّا وشارك بها من سوريا إلى العراق إلى ليبيا، وصولاً إلى التدخّل في الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، وأخذ موقف العداء من مصر، ودعم قطر في خلافها مع المملكة السعودية، وفي الوقت الذي يمدّ يده ليصافح الإيرانيين، نراه يفتح الأراضي التركية لتكون مسرحاً لانطلاق الغارات الجويّة الأمريكيّة والإسرائيليّة ضدّ العراق وسوريا وإيران، وها هو يسعى لفرض نفسه على السّاحة الدوليّة بطرح نفسه وسيطاً لحلّ النّزاع بين روسيا وأوكرانيا.

برَع أردوغان، الصّبي بائع عصير اللّيمون وفطائر السمسم في شوارع إسطنبول، في أن يقدّم نفسه بشخصية المناضل الإسلامي، ويعتزّ في أنّ سيرته الذاتية تسجّل بقاءه أربعة أشهر سجيناً عام 1999، بعد اتّهامه بالتّحريض الديني وإلقائه قصيدة في أحد التجمّعات قال فيها: "المسجد معسكرنا، وقبابه خوذاتنا، والمآذن رماحنا، والمؤمنون هم جنودنا".. هكذا وجد أردوثمان (الاسم يجمع أردوغان مع عثمان)  نفسه وريثاً لنجم الدين أربكان في زعامة حزب "العدالة والتنمية"، واستطاع على مدى عشرين عاماً أن يحكم هيمنته على تركيا، فهو الإسلامي الذي لم يلغِ العلمانية، والعثماني الذي لم يسقط أتاتورك، والتركي الذي يحلم في أن تضمّه أحضان أوروبا، والرئيس الذي يعتقد أنّ توسّط دولته الكرة الأرضية يُتيح له مدّ يديه إلى الشرق والغرب شريكاً فاعلاً في حكم العالم.

احتفى أردوثمان بالأمس بضيفه الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بعد 15 عاماً من القطيعة الصوريّة، ليبدأ علاقة استراتيجيّة لا مجال فيها للخلاف و"بلا أوهام"، وهو الذي أتقن فن لملمة قاعدته الإسلامية في الداخل، عبر تصريحاته النارية ضدّ إسرائيل، وحقّق الشعبيّة الكافية في الخارج فأوصله ذلك إلى زعامة تيار "الإخوان المسلمين" ومصادرة مجلس قيادته من المصريين، وكلّ ذلك لم يثر حفيظة إسرائيل بحكوماتها المتعاقبة، بل لعلّها وجدت فيه نموذج السلطان عبد الحميد الثاني الذي رفض طلب ثيودور هرتزل باحتضان اليهود، ولكنّه تنازل لبريطانيا عن أرض فلسطين لكي تقيم فيه "وطناً قومياً لليهود".

لا يخفى على أحد أنّ لأردوثمان طموحاً في أن يجعل من تركيا باباً لإيصال غاز حقول شرق المتوسّط إلى أوروبا عبر خط أنابيب "إيست ميد"، وهو مشروع وقّعته إسرائيل واليونان وقبرص عام 2020 دون تركيا، ولذا فهو لن يتوانى عن تقديم كلّ التنازلات التي تضمن له "التّعاون في مجال الأمن وأمن الطّاقة" مع إسرائيل تحت مظلّة هذا المشروع، ويكون شريكاً كاملاً في الإتّفاق، ولذلك لم يجد هرتسوغ نفسه غريباً عن بلده، فالتقى اليهود الأتراك في كنيسهم الآمن، وهم الذين "كان لهم دور كبير في كتابة تاريخ الشعب اليهودي"، وطمأنهم أنّ أردوغان أخبره أنّه يؤمن "بضرورة تعزيز ما يربطنا، كلّ الأمم والأديان".

قد ينبري أحد ليقول إنّ أردوغان لا يشذّ عن السياق العربي الذي يتقاطر يوماً بعد يوم ليقيم العلاقات مع إسرائيل، ويعقد الإتّفاقات الأمنيّة والعسكريّة المشتركة، وهذا واقع حقيقي تشهده المنطقة في إطار مخطّط شامل لإعادة تشكيل النظام العالمي، بحيث تنشأ حدود جديدة للبلاد الكبيرة والصغيرة، وتنصهر الأديان في معتقد ابراهيمي واحد روّج له بابا الفاتيكان خلال زيارته إلى العراق؛ ولكن الخطر الحقيقي يكمن في طموحات أردوثمان التوسّعية في استعادة أمجاد الإمبراطورية التركية، ولن تأتي هذه الطموحات على حساب الولايات المتحدة الأمريكية المتحكّمة بالعالم من وراء البحار، ولا على حساب أوروبا المتوجّسة أصلاً من أطماع أردوثمان، وتتّجه لتحصّن حدودها على وقع الحرب الروسية – الأوكرانية، بل سيأتي على حساب الدول العربية التي تعيش اليوم حالة عميقة من التّشرذم والتمزّق، وتعاني غياب الموقف الموحّد من القضايا الاستراتيجية المشتركة.

كانت تركيا الدولة الأولى في المحيط العربي والإسلامي التي اعترفت بإسرائيل كدولة بعد أقلّ من عام على الإعلان عنها عام 1948، ولئن كانت تركيا يومذاك تحت حكم علماني، إلّا أنّها اليوم تحت حكم "إسلامي" يقوده أردوثمان، الذي يجاهر في أنّه يطمح بإنشاء حلف استراتيجي مع إسرائيل، وطرح نفسه سابقاً وسيط "سلام"، ووضع إكليلاً من الزهور على النصب التذكاري للهولوكوست (ياد فاشيم)، معلناً أنّ معاداة السامية "جريمة ضدّ الإنسانيّة"، وأسقط قضية فلسطين من أجندته، فهي لم تعُد عنصراً جاذباً يجيّش بها مشاعر المسلمين في ظلّ عصر التطبيع العربي، ولعلّها فرصة سانحة للعثماني الصغير أن يمدّ نفوذه ليُعيد رسم جغرافية امبراطوريّته وصولاً إلى الجزيرة العربية تحقيقاً للحلم الذي يُراوده كما راود أجداده من قبل، وبالتّالي فإنّ الدول العربية من ساحل البحر المتوسط حتّى دول الخليج والمملكة ستكون كبش الفداء على مذبح المشروع التوسّعي التركي – الإسرائيلي.