خاص الموقع

"عنتر ولبلب".. هكذا خسِرت المملكة أمام قرداحي

في 2021/11/07

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

من الهدوء إلى التّراجع الدّائم، المستمر، الذي لا يلوي على شيء، ومن الدّفع مقابل الصّمت إلى الفضيحة الكاملة، ومن التّجاهل إلى صدارة كلّ حديث، تحوّلت حرب اليمن إلى أسوأ كابوس للمملكة العربية السعودية، من فقدان الدور والهيبة إلى أن باتت المملكة لوحة التّصويب الأولى في العالم العربي، عقب انخراطها في صراع عبثي جديد ضدّ شخص واحد، خرج فائزًا بالضّربة القاضية الفنيّة في نهاية المباراة.

تصريح قديم لوزير الإعلام اللّبناني الجديد، والنّجم الإعلامي البارز جورج قرداحي، عن حرب المملكة في اليمن، رآه من يضع السّياسات ويخطّط وينفّذ فرصة لكتم كلّ انتقاد عربي لاستمرار الحرب في اليمن، والمستمرّة من 6 سنوات ونصف، فإذا بالمشهد يبدو على أنّه حلف خليجي يُطالب برأس رجل واحد فقط، والأسوأ أنّه فوق ما أثاره من عواصف الإدانة ضدّ المملكة ككلّ، شهد هزيمة ليس بعدها كما كان قبلها على الإطلاق.

ورغم تجنيد المملكة كلّ ما تستطيع تجنيده في سبيل وقف صوت واحد ضدّها، فقد رفض الوزير التّهديد، واستطاع أن يجمع حوله الرأي العام في بلده، ودول عربية أخرى عديدة، بل وأصوات أخرى كانت مؤيّدة للمملكة على طول الخط اختارت الخروج من المعركة، بينما سقط كلّ من هاجمه في براثن غضب هائل، مدفوع برغبة عربية –صارت ملحّة وضاغطة- بضرورة وقف الحرب في اليمن عند هذا الحدّ.

لم يستقل جورج قرداحي، ولم يُقال أيضًا، بل خرج متحدّيًا الرّغبة السعودية في ابتعاده عن المشهد، ليحصل على لقب بطل الفيلم في النهاية، البطل الذي تصدّى للأقوياء وأعجزهم عن النّيل منه، وهي صورة يحبّها الشارع العربي كثيرًا جدًا، كما في الفيلم المصري القديم "عنتر ولبلب" حين تمكّن الشاب الضعيف من الوقوف متحدّيًا أمام جبروت البطل الضّخم عنتر، وبات يوجّه له الصّفعات السبع، الواحدة تلوَ الأُخرى، وسط فرحة جمهور الحارة الفقير بهذا الشّجاع الذي يتحدّى الظروف وفارق الإمكانيات الهائل، ويحصل في النّهاية على ما يُريد.

لكن الأصعب في الصّورة الحالية هو حالة الشّذوذ التي باتت عليها المملكة، وفقدان تأثيرها المعنوي الهائل، وتساقط أوراق وأبواق دعائيّة، دون فائدة تُرجى، حتّى في واحدة من أصغر الدول العربية مساحة وسكانًا، والأقل من بين شقيقاته العربيّات من حيث الموارد الاقتصادية والقوّة.

سير وقائع الأزمة كلّها كانت خسارة منذ بَدايتها، فالمملكة التي قامت واستمرّت وعبَرت أصعب وأدقّ الأزمات بالمواءمة حينًا وبعيدًا عن الأضواء، انجرّت وراء اندفاع ولي العهد إلى خوض صراع جديد، أعتقد أنّه سيخرج منه فائزًا، دون تكاليف ضخمة، ويثبت لنفسه وللسعودية، والعالم، إنّ المملكة تحت قيادته لا تزال القوّة الإقليمية الأولى الفاعلة، القادرة على فرض ما تريد، وقتما تريد.

ولم تكن الحقيقة الموضوعيّة، ولا الحقيقة السياسيّة، في صف ولي العهد، بالنّهاية انكشفت قلّة الخيارات السعودية، وسقطت أوراق ضغطها الواحدة تلوَ الأُخرى أمام زخم التّضامن الهائل مع رجل يقف وحيدًا، وبات العجز عن الحركة هو الردّ السعودي الوحيد المُتاح أمام أي رعب قادم، إذ لم ينجرّ من خسر هذه المرّة وراء الرّغبة السعودية عقب الخسارة السياسية الفادحة.

في أزمة سياسية استمرت أسبوعًا واحدًا لا أكثر، عكست السعودية تحت قيادة الأمير محمد بن سلمان كلّ ثوابت تعاملها مع الإقليم، والذي كان ناجحًا في مواجهة العقبات وفعالًا في وجه المفاجآت كلّها، يكفي أنّ الجهد الدّبلوماسي الخَفي في حرب الخليج الثانية، استطاع في أيّام أن يَربح أمام صدام حسين لعبة الشّطرنج، وفي النّهاية استمالت المملكة كلّ حلفاء العراق أو حيّدتهم، من الاتّحاد السوفيتي الذي ترك حليفه في العراء أمام القوّة الأميركيّة الباطشة، إلى مصر وسوريا اللّتان انخرطتا في الحلف الدولي لتحرير الكويت، رغم بعد الشقة بين المواقف قبل بَداية الأزمة.

لم تأتِ الدّبلوماسية السعودية بالمُعجزات في 1991، ولم تحقّق المستحيل، لكن من كان يُمسك بالخيوط كان يُدرك أزمة الظّرف المستجد، ويُجيد التّعامل مع مفاجأة اللّحظة العراقية، لديه الكفاءة والمرونة للعب على وتر قبلة المسلمين المهدّدة من أضخم جيش عربي وأكثره كفاءة وبطشًا، وبالتّوازي قامت المملكة بجهد منسّق لشرح موقفها، وكسب الأرضية حتى بين حلفاء عدوها.

وبتراث من المواءمة أيضًا لم تتورّط السياسة السعودية على الإطلاق في فضح حليف أو حرقه، حتّى في حال التّهديدات كانت تتمّ بعيدًا عن الكاميرات، وتحقّق المطلوب فورًا، إذ يبقى التّنازل المطلوب من الهدف في هذه الحالة سهلًا، ميسورًا، والخلاف محصورًا، وهذا كلّه عكس ما يجري حاليًا تمامًا.

في الأسبوع الحالي، نفسه أسبوع أزمة قرداحي، خرجت وكالة الأنباء الرّسمية بنبأ منح النّظام المصري 3 مليارات دولار كوديعة جديدة من المملكة، بجانب تأجيل موعد استحقاق 2.3 مليار  دولار أخرى.. مفهوم لدى الجميع اعتماد النّظام الحالي في مصر على الأموال الخليجية في ضمان استقراره الاقتصادي، ثمّ خدمة المصالح السعودية ثانيًا، ومعروف بالطبع أيضًا أنّ محمد بن سلمان بالذات حقّق انتصاره الوحيد بتوقيع مصر على اتّفاقية تعيين الحدود البحرية ضدّ السيسي، لكن الغريب في الإعلان السعودي هو المغامرة بإخراج صورة حليفه بهذا الشّكل المُهين داخليًا وخارجيًا، وهي صورة ستَنطبِع في أذهان آخرين، ربّما تحتاج المملكة إليهم، لكن معاينة مصير التّعاون مع ابن سلمان ستجعل الواحد منهم يفكّر ألف مرّة، قبل أن يقرّر قبول هكذا مصير.