إيمان شمس الدين- البيت الخليجي-
رغم الهجرة القصرية والطوعية لعولمة الحداثة ومفاهيمها إلى منطقتنا العربية والإسلامية، خاصة فيما يتعلق بأنظمة الحكم وأشكالها، إلا أن مفهوم الدولة الحديثة، في منطقة الخليج خاصة، لم يستطع تجاوز الجماعات الطبيعية أو الأسر والسلالات السياسية، سواء أكانت أسراً حاكمة أو أفهاماً قبلية تهيمن على أنظمة الحكم ومؤسساتها.
وبدل من هيمنة الصلات والروابط الأفقية في النظام السياسي، لا تزال العلاقات العمودية قائمة ومتغلبة على الحواجز والفواصل والتقسيمات التي تفترضها نظرية التطور وتطبيقاتها على المجتمع والإدارة والدولة، وهو تساؤل طرحه إيف شميل في مقاله المعنون: “العائلات، العشائر، القبائل؛ ماذا يبقى من السلطة التقليدية”.
في الكويت؛ الديموقراطية التي تأسست تحت رعاية الإنجليز، لم تستطع التخلص من النظام التقليدي في السلطة، ويسري ذلك على مؤسسات الدولة وقوانينها، رغم مخالفة كثير منها لما ينص عليه الدستور.
ورغم حجم الفساد الذي يتكشف كل يوم، وغليان الشارع الكويتي الذي بات يرى تآكلاً في دوره كمصدر للسلطات، وفي ديموقراطيته خاصة تلك القوانين التي قيدت الحريات، وتسببت في الزج بالكثير من الشباب الكويتي إلى السجون لمجرد تغريدة عبر فيها عن رأيه، ولجوء آخرين إلى الخارج، إلا أن ذلك لا يغير كثيرًا من الخلل الحقيقي المتمثل في البنى التأسيسية للدولة.
التقهقر الذي تشهده الكويت يستتبع تدني المشاركة السياسية، ويؤدي بالتالي إلى أزمة حقيقية في التمثيل السياسي، حيث لا يشعر الناخبون أنهم ممثلون بشكل صحيح، وهو ما بدا واضحًا في الآونة الأخيرة عبر شجب كثير من النخب وأبناء الشعب للطبقة السياسية التي يعتقد الناخبون أن لا غاية لها سوى تحقيق سلطتها ومصالحها الخاصة، وسعيها إلى الإثراء غير المشروع من أموال الشعب، دون وجود رقابة ومحاسبة حقيقية لحجم الفساد الذي استشرى في كافة مؤسسات الدولة ومفاصلها.
وعلى أي حال؛ نلاحظ تآكل الديموقراطية من خلال تآكل مقوماتها التي ترتكز على التالي:
أولاً: التمثيل الحقيقي للشعب في مجلس الأمة، حتى يتحقق هذا التمثيل لابد من تقسيم الكويت وفق دوائر تبتعد عن المحاصصات القبلية والمذهبية، واعتماد نظام للتصويت يؤدي للتمثيل العادل لكل فئات ومكونات المجتمع.
بطبيعة الحال؛ الواقع خلاف ذلك، التصويت وفق نظام الصوت الواحد، وتقسيم الدوائر إلى خمس دوائر، كلاهما يضمن النتائج وفق رغبات السلطة، خصوصاً وأن التوزيع يتم على أساس مذهبي، عائلي وقبلي. تكرس هذه المعادلات الانتماء للقبيلة والعائلة والمذهب، خاصة مع تفشي الفساد، وتحويل دور النائب من الرقابة والتشريع إلى ما يصطلح عليه شعبياً بنواب الخدمات وتسهيل المعاملات. ولأن النائب بحاجة للصوت الانتخابي، ومع فساد الحكومة وتفشي الفساد والبيروقراطية في مؤسسات الدولة، لا يصوت الناخب على أساس الكفاءة والنزاهة غالبا، بل على أساس حجم ما يقدمه المرشح من خدمات لناخبيه. النتيجة؛ يصبح النائب أسيرًا للحكومة، وإن قرر استخدام أدواته الدستورية فهو غالبا لا يلجأ إليها لمراقبة ومحاسبة الفاسد، بل للضغط على الوزراء في الحكومة في حال لم يستجيبوا لحاجات ومعاملات ناخبيه.
ثانياً: الحكومة المنتخبة. وهو ما يتطلب وجود حكومة منتخبة عن طريق مجلس الأمة، تقوم هذه الحكومة بطرح برنامجها على النواب، كل وزير على حدة، ويقوم بعد ذلك البرلمان بإعطاء الثقة للوزير أو حجبها بناء على برنامجه الوزاري. وهو ما لم ينص عليه الدستور الكويتي، لأن الحكومة تتشكل عن طريق تكليف شخص برئاسة الوزراء من قبل أمير الكويت، ويقوم المكلف بتشكيل مجلس الوزراء، وتكون هناك مشاورات ودية سرت كعرف سياسي، وليس كمادة منصوص عليها في الدستور.
ثالثاً: تفعيل دور مجلس الأمة الممثل للشعب عن طريق ممارسة دوره التشريعي والرقابي. الواقع اليوم هو أن مجلس الأمة فرغ تدريجيًا من أداء دوره الرقابي والتشريعي بعد فساد مخرجات العملية الانتخابية نتيجة تقسيم الدوائر ونظام التصويت من جهة، والمال السياسي من جهة أخرى. كل ذلك وفق صراعات ومعادلات تقود أقطابها قوى متصارعة من ذوي النفوذ السياسي والمالي في الخفاء. وهو ما بدا ذلك جليًا في الأزمة السياسية الأخيرة التي وُصفت “بالانقلاب الأبيض” الذي نجح في إقصاء رئيس الوزراء جابر المبارك الصباح ونائبه ووزير الداخلية خالد الجراح من المشهد السياسي، وهو ما يدل على حجم الصراعات الداخلية، وحجم التكتلات النيابية التابعة لأقطاب الصراع، وقوة تأثيرها في داخل مجلس الأمة. كل ذلك يصب في تآكل الديموقراطية الكويتية واستمرار قوة العائلة والعشيرة وسلطة مجموعة الأوليغارشيات التي تراكم سلطاتها السياسية والاقتصادية.
رابعاً: استقلال السلطة القضائية وعدم تأثرها بالوضع السياسي، أو مشاركتها فيه، وهو ما لا يتوفر غالبا كشرط في السلطة القضائية. علماً أن أي تشكيك في نزاهة القضاء قد يعرض صاحبه إلى المساءلة القانونية، حتى لو كان هذا التشكيك في محله.
تعيش الكويت اليوم تحت سندان تآكل تجربتها الديموقراطية من جهة، ومطرقة عودة السطلة التقليدية بأشكال مختلفة من جهة أخرى. السلطة التقليدية التي شكلت أوليغارشيات جديدة تتحكم في مفاصل الدولة، تلجأ إلى الدستور حينما تتعرض مصالحها للخطر، وترمي به عرض الحائط في حال لم يوافق مصالحها.
هذا التعاطي المصلحي والانتقائي للدستور وحاكميته، خلق مزاجًا شعبيًا معارضًا تزداد حدته مع شياع مظاهر الفساد وتزايد السرقات من أموال الدولة وتآكل صندوق الاحتياط العام، الذي لجأت إليه الدولة لسد العجز؛ غير ذات مرة.
في الأزمة الأخيرة؛ استطاعت الدولة سحب فتيل الأزمة، لا بتقديم معالجات جذرية حقيقية، لكن بإبعاد رئيس مجلس الوزراء الذي كان ابعاده مطلبًا شعبيًا، تكليف رئيس مجلس وزراء جديد وتصدر عناوين محاربة الفساد وتحويل بعض الفاسدين الصغار للتحقيق كمحاولة لامتصاص غضب الشارع، وهو ما تحقق.
السؤال: كم مرة وإلى متى يمكن امتصاص غضب الشارع؛ بذات التكتيك؟