ثقافة » تربية وتعليم

لماذا تتدفق الأموال السعودية إلى الجامعات الأمريكية؟

في 2019/07/09

نيويورك تايمز-

في أحد أيام الربيع العام الماضي، تجمع محتجون على رصيف جانبي لشارع مزدحم في مدينة "كامبريدج" التابعة لولاية "ماساتشوستس" (شرقي أمريكا)، أمام مبنى من الحجر الجيري والخرسانة هو بوابة لـ"معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا".

وتؤدي ردهة المبنى إلى ممر طويل يصل إلى قلب واحدة من أكثر المؤسسات الأكاديمية فخرا في أمريكا.

وكان من المقرر أن يزور ولي لعهد السعودي الأمير "محمد بن سلمان"، المعهد في اليوم التالي، وقد أراد المتظاهرون، وهم مزيج من الطلاب ونشطاء السلام المحليين، إلغاء دعوته.

وقد عارضوا أن يتم الترحيب بالأمير داخل القلعة العلمية، وكانوا يلفتون الانتباه إلى الروابط المالية للدولة السعودية مع المعهد، و62 جامعة أمريكية أخرى على الأقل، في وقت يدينه نشطاء حقوق الإنسان بسبب قصف المدنيين في اليمن المجاورة، فضلا عن قمعه الوحشي للمعارضة.

وكان "بن سلمان"، البالغ من العمر 33 عاما، قد أصبح زعيم المملكة بحكم الواقع منذ عام 2017، عندما تم تعيينه وليا للعهد من قبل والده المريض، الملك "سلمان".

وكان آنذاك في خضم جولة أمريكية، وكان قد ذهب بالفعل إلى البيت الأبيض للقاء الرئيس "دونالد ترامب"، الذي قال، بينما كانا يجلسان معا في المكتب البيضاوي، إنهما أصبحا "صديقين حميمين للغاية خلال فترة زمنية قصيرة إلى حد ما".

وشكر الرئيس الأمير الشاب على "شراء المملكة مليارات الدولارات من المعدات العسكرية أمريكية الصنع"، ووجه كلامه للأمير مازحا: "إنه مثل شراء الفول السوداني بالنسبة لك".

ومن "كامبريدج"، استكمل "بن سلمان" رحلته ليصل إلى كاليفورنيا (غرب)، حيث استأجر فندق "فورسيزونز" في "بيفرلي هيلز" المكون من 285 غرفة، حيث كان ضيف الشرف في مأدبة عشاء استضافها "روبرت مردوخ"، وحضرها عدد كبير من مشاهير صناعة الترفيه.

وفي "وادي السيليكون"، التقى "تيم كوك"، الرئيس التنفيذي لشركة "أبل"، وغيره من المسؤولين التنفيذيين في مجال التكنولوجيا.

وفي سياتل، التقى مع "جيف بيزوس"، الرئيس التنفيذي لشركة "أمازون".

وكانت السعودية بالفعل مستثمرا في "أوبر" من خلال صندوق الثروة السيادي، الذي يسيطر عليه ولي العهد، وكان يتفاوض لشراء حصة في مجموعة "إندافور"، وهي مجموعة إنتاج في هوليوود تضم وكالة "دابليو إم إي" للمواهب.

وفي هذه المحطات على الساحل الغربي، كان يرتدي "بن سلمان" بدلة أو جينز، أو سترة رياضية أو قميصا مفتوحا، بدلا من الرداء الأسود التقليدي وغطاء الرأس باللونين الأحمر والأبيض الذي كان يرتديه في البيت الأبيض.

يقول "روبرت جوردان"، سفير المملكة في عهد الرئيس الأمريكي سابقا "جورج دبليو بوش": "كان الأمير الشاب يلتزم ببيئة العمل ويتلاءم مع حشد وادي السيليكون وهوليوود، وقد تلاعب بهم بسهولة.. لقد كان معظم الحديث عن المال، مع إغراءات للوصول إلى بلده الثري ومحافظه التمويلية الضخمة".

وعلى الرصيف في ذلك اليوم في كامبريدج، كانت أحد المتحدثين المميزين هي "شيرين العضيمي"، (35 عاما)، التي ولدت في اليمن، وأمضت جزءا من طفولتها هناك، وكان أقاربها في اليمن يعيشون آنذاك في حرب أهلية، تسببت في سقوط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين، وتهدد الملايين بالمجاعة، لكنها بالكاد ظهرت في دورة الأخبار الأمريكية في تلك المرحلة.

وكانت الجامعات الأمريكية التي تتعامل مع السعوديين، إلى حد كبير في شكل أبحاث مدعومة مقابل المال من "أرامكو" شركة النفط السعودية العملاقة، وغيرها من الصناعات المملوكة للدولة، لا ترى أي سبب للتوقف عن هذه المعاملات. أما الأصوات القليلة التي عارضت هذه العلاقة فقد تم تجاهلها ببساطة.

وكانت "العضيمي"، تعيش في مكان قريب مع زوجها، وهو طالب دكتوراه، في شقة يملكها المعهد.

وكانت تنهي دراسات الدكتوراه الخاصة بها في جامعة "هارفارد"، وستبدأ قريبا وظيفة كأستاذ مساعد في ولاية ميشيغان.

ولم تكن أبدا نشطة سياسيا من قبل، لكنها بدأت تتحدث علانية ضد السلوك السعودي في اليمن من خلال النشر على وسائل التواصل الاجتماعي والكتابة إلى السياسيين الأمريكيين.

وفي المظاهرة، كانت ترتدي سترة رمادية ووشاح رأس بلون الخوخ، وتحدثت بصوت ضعيف وناعم في ميكروفون محمول باليد، حيث قالت: "يستضيف المعهد الرجل الذي يتسبب في تجويع الملايين من الناس حتى الموت عن طريق الحصار والمنع من الوصول إلى الغذاء والدواء.

وتابعت: "يستضيف المعهد الرجل الذي خلق أسوأ أزمة إنسانية على الأرض.. يستضيف المعهد مجرم حرب، يجب معاقبته على جرائمه وعدم الترحيب به هنا ببساطة".

ومضت "العضيمي"، و5 آخرون، إلى البناء، ومشوا في الممر الطويل لتقديم عريضة إلى رئيس الجامعة "رافائيل ريف".

وكان هناك نحو 4 آلاف توقيع على العريضة، التي طالبته بإلغاء زيارة "بن سلمان"، بيد أن "ريف" لم يكن في مكتبه، ولم يتلقوا أي رد.

وفي صباح اليوم التالي، أمضى "بن سلمان" عدة ساعات في مختبر الوسائط "ميديا لاب" التابع للمعهد.

وتأتي غالبية ميزانية "ميديا لاب" السنوية، البالغة 75 مليون دولار، من الرعاة من الشركات التي يدفع كل منها ما لا يقل عن 250 ألف دولار كل عام.

وكانت مؤسسة "بن سلمان" الشخصية من بين 90 عضوا تقريبا في قائمة الممولين.

ووقع السعوديون 3 عقود في ذلك اليوم، بقيمة إجمالية قدرها 23 مليون دولار، اثنين منها لتوسيع المشاريع البحثية الحالية مع المعهد، أما الثالث فكان لمبادرة جديدة بين الجامعة وشركة "سابك"، وهي شركة سعودية للبتروكيماويات مملوكة للدولة، للبحث حول أداة تكرير أكثر كفاءة للغاز الطبيعي.

بين الصورة والواقع

وفي وقت زيارة "بن سلمان"، بدت المملكة دولة تحررية، على الأقل إلى حد ما، وحصلت النساء حينها على الإذن لقيادة السيارة، وهو إصلاح حصل على قدر كبير من اهتمام وسائل الإعلام.

وعندما تم افتتاح مسرح سينمائي في الرياض في ذلك الربيع، أنهى ذلك حظرا مدته 35 عاما على دور السينما.

ولكن بعد 6 أشهر من رحلة الأمير الأمريكية المظفرة، وتحديدا في 2 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تم قتل الصحفي "جمال خاشقجي"، المواطن السعودي الذي عاش في فرجينيا وكاتب العمود في صحيفة "واشنطن بوست"، داخل القنصلية السعودية في إسطنبول.

وقد حملت وكالات الاستخبارات الأمريكية الدولة السعودية المسؤولية، وخلصت إلى أن ولي العهد نفسه على الأرجح هو من أمر بالقتل.

وقد وصل تقرير للأمم المتحدة، صدر في يونيو/حزيران الماضي، إلى نتيجة مماثلة.

وفي وقت لاحق في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" أنه يعيد تقييم صلاته الواسعة بالمملكة، وتم تعيين "ريتشارد ليستر"، وهو وكيل مساعد يشرف على شراكات المعهد مع الكيانات الأجنبية، للقيام بهذه المراجعة.

وتعد مهمة "ليستر"، هي استكشاف ما إذا كان مصدر المال قد يكون غير مناسب لدرجة تبرر رفض الأموال أو إعادتها، وهي مهمة ليست سهلة بكل تأكيد.

وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أوضح "ليستر" النتائج الأولية التي توصل إليها في رسالة إلى "ريف"، وتم مشاركتها أيضا مع أعضاء هيئة التدريس والطلاب.

وكان على "ليستر" أن يعترف بحقيقة غير مريحة: "كان أحد الأفراد المعروفين الآن بأنهم لعبوا دورا رائدا في اغتيال خاشقجي، في إسطنبول، جزءا من الوفد المرافق لبن سلمان، أثناء زيارة الأخير إلى المعهد، وهو ماهر عبدالعزيز مطرب".

وقد تعامل هذا الشخص مع أعضاء ومجتمع المعهد في ذلك الوقت، وهو اقتحام غير مرغوب فيه وغير مناسب للفضاء العلمي.

وأعادت "إنديفور" استثمارا بقيمة 400 مليون دولار من السعودية هذا العام، لكن العديد من الشركات الأمريكية الأخرى أبقت على عملها مع المملكة.

وفي أبريل/نيسان الماضي، أعدم النظام السعودي 37 شخصا في يوم واحد، معظمهم بقطع الرأس، وقيل إن أحد المدانين تم "صلبه"، وتم عرض جثته مقطوعة الرأس في الأماكن العامة.

وكان المستثمرون قد أقدموا على شراء سندات "أرامكو" بحماس، التي كانت قد عرضت لأول مرة في أبريل/نيسان الماضي، وما زالت "إيه إم سي" تخطط لبناء عشرات المسارح الجديدة في المملكة.

وبالتأكيد لا يحتاج "معهد ماساتشوستس" إلى أموال السعودية، فهي واحدة من تلك الجامعات فائقة الحجم التي تتم مقارنة مواردها المالية أحيانا باقتصادات دول صغيرة أو متوسطة الحجم.

وقد أنفق المعهد نحو 3.6 مليار دولار على عملياته العام الماضي، وكانت التبرعات التي حصل عليها بقيمة 16.5 مليار دولار، تأتي في المرتبة السادسة بين أكثر الجامعات الأمريكية حصولا على التبرعات، وهي قيمة أكبر من إجمالي الناتج المحلي لنحو 70 دولة، بما في ذلك منغوليا ونيكاراغوا وجمهورية الكونغو.

وتعد الأموال التي يتلقاها من مصادر سعودية متواضعة نسبيا، حيث تقل عن 10 ملايين دولار في الكثير من الأعوام، على الرغم من أن المعهد تلقى هدايا فردية من المليارديرات السعوديين تصل قيمتها إلى 43 مليون دولار.

تدفق الأموال السعودية

ويشترط القانون الفيدرالي على الجامعات في الولايات المتحدة الإبلاغ عن أي إيرادات تزيد عن 250 ألف دولار من خارج البلاد، حيث يتم تسجيلها من قبل وزارة التعليم فيما يعرف باسم تقرير الهدايا الأجنبية.

ويوضح ذلك أن الأموال السعودية تتدفق إلى جميع أنواع الجامعات الأمريكية، بما ذلك نخبة الجامعات مثل "هارفارد" و"يال" و"نورث ويسترن" و"ستانفورد" و"معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا"، والجامعات الحكومية الرئيسية مثل "ميشيغان" و"جامعة كاليفورنيا"، و"بيركلي"، والمؤسسات التعليمية في المناطق المنتجة للنفط، مثل "تكساس"، والجامعات الحكومية مثل جامعة "شرق واشنطن" وجامعة "بول ستيت".

وبالنسبة لهذه الفئة الأخيرة من الجامعات، تأتي الأموال السعودية بالكامل تقريبا في شكل رسوم دراسية للطلاب السعوديين، التي عادة ما تكون ضعف ما يدفعه أبناء الولايات المتحدة.

ويبلغ عدد سكان المملكة 34 مليون نسمة، وهي الدولة رقم 41 في العالم من حيث عدد السكان، ولكن مع 44 ألف طالب سعودي في الولايات المتحدة، تصبح المملكة رابع أكبر مصدر للطلاب الأجانب، بعد الصين والهند وكوريا الجنوبية فقط.

وبدأ الطلاب السعوديون القدوم إلى الولايات المتحدة بأعداد كبيرة بعد اجتماع عام 2005 بين ولي العهد آنذاك، الأمير "عبدالله بن عبدالعزيز"، والرئيس "جورج دبليو بوش"، في مزرعة بوش في كروفورد، تكساس، كانا يبحثان فيه عن سبل لاستعادة العلاقات الأكثر دفئا بين الدولتين بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.

وعلى حد تعبير بيان مشترك، كان حجر الزاوية في ذلك بالنسبة للسعوديين إرسال أعداد أكبر من الطلاب إلى الولايات المتحدة.

وتدفع الحكومة السعودية الرسوم الدراسية مباشرة، بموجب عقود فردية مع العديد من الجامعات للطلاب الجامعيين.

وتحدد العقود تخصصات الطلاب، وتذكر أنه يجب إبلاغ البعثة الثقافية السعودية في شمال فرجينيا، التي تدير البرنامج التعليمي، إذا كان الطالب يسعى إلى تغيير تخصصه.

ولا تدفع أي دولة أخرى لطلابها الجامعيين المقيمين في الولايات المتحدة بنفس الطريقة المنهجية.

وفي عام 2018، دفع 411 سعوديا في جامعة شرق واشنطن على أكثر من 12% من إجمالي الرسوم الدراسية للجامعة، بينما كانوا يشكلون 3% فقط من مجموع الطلاب.

وقامت جامعة شمال كنتاكي بتعليم أكثر من 700 سعودي خلال العقد الماضي.

ووفقا لـ"فرانسوا ليروي"، مدير المشاركة العالمية في الجامعة، كان معظمهم من الذكور، ويميلون إلى التخصص في التكنولوجيا الهندسية.

وهناك عدد كبير منهم من المتزوجين، ويعيشون خارج الحرم الجامعي مع أسرهم، وقد مثل وجودهم فائدة إضافية تتمثل في مساعدة الاقتصاد المحلي.

ويقول "لوروي": "لقد كان أداء وكلاء السيارات جيدا، لأن معظمهم يشترون سيارات بمجرد وصولهم".

ولا يعتبر خريجو المدارس الثانوية السعودية عموما أقوياء من الناحية الأكاديمية، مثل الخريجين القادمين من الصين مثلا، أو الدول الأخرى التي ترسل الطلاب إلى الولايات المتحدة.

وقد أخبرني مستشار يقدم المشورة للجامعات حول القضايا المتعلقة بالطلاب الدوليين أنه يعتقد أن السعوديين ينجذبون إلى جامعات أقل انتقائية، حيث يمكنهم الحصول على القبول بسهولة.

ولا يتعلم الكثير من السعوديين في "معهد ماساتشوستس"، حيث يستقبل فقط 6 طلاب، و27 من طلاب الدراسات العليا، بين نحو 11 ألفا و600 طالب التحقوا بالمعهد عام 2018.

وهناك ما لا يقل عن 25 جامعة تمتلك عقودا مع "أرامكو" و"سابك" و"مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية"، وهي منشأة أبحاث حكومية في الرياض.

ويعمل "المعهد" مع الجهات الثلاثة، وتركز العديد من الاتفاقيات بين الجانبين على الجوانب الفنية لاستخراج ومعالجة النفط والغاز الطبيعي.

ويعمل الاقتصاديون في كلية "كينيدي" للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد مباشرة مع الحكومة السعودية لإعادة إحياء سوق العمل في المملكة لعصر ما بعد النفط، وأيضا لزيادة فرص العمل للنساء والشباب.

وفي كل هذه الحالات، يشبه تعاون الجامعات مع السعوديين تقديم الاستشارات، ولا يعتبره الأكاديميون يندرج تحت مسمى البحوث الأكاديمية.

الفوائد السعودية

وتعد الفوائد التي تحصل عليها السعودية من هذه العلاقات واضحة.

حيث تحصل المملكة على إمكانية الوصول إلى عقول موثوقة في أفضل المؤسسات الأكاديمية الأمريكية في سعيها لتحديث اقتصادها، وهو جهد أطلقه "بن سلمان" ضمن "رؤية 2030".

ولعل من الأهمية بمكان، دخول جامعات مثل "معهد ماساتشوستس" للعمل على تحسين صورة المملكة.

وتعد السعودية ملكية مطلقة، معادية للمرأة وحرية الصحافة والتعبير الحر، حيث يمكن تقديم العلاقة السعودية مع الجامعات الأمريكية كطريقة لتحسين علامتها التجارية؛ كما تخدم تحركاتها الأخيرة لرعاية الأحداث الرياضية البارزة في الجامعات نفس الغرض.

ويقول "روبرت جوردان"، السفير السابق لدى المملكة: "إنها وسيلة لنشر القوة الناعمة، كما فعلت الولايات المتحدة منذ أعوام في جميع أنحاء العالم".

وفي رحلة "بن سلمان" إلى كامبريدج العام الماضي، لم يسأله أحد عن اليمن، أو عن أي شيء آخر، بل وصف أحد المسؤولين في جامعة هارفارد اللقاء بأنه كان "استعراضا وتحية، ولم تكن هناك فرصة كبيرة للتداول أو طرح الأسئلة".

وقد شكك "ليستر"، في أن تكون هناك قيمة حقيقية مرتبطة بالزيارة.

ويؤكد المسؤولون في الجامعات التي لها علاقات مع المملكة على دورهم في تحويل المملكة.

وتساعد جامعة "نيو هافن"، وهي مدرسة خاصة لديها برنامج للعدالة الجنائية، في تثقيف موظفي إنفاذ القانون السعوديين.

وقد تعرض البرنامج للتدقيق بسبب نظام العدالة الاستبدادي القاسي المعروف في المملكة.

وأخبرني رئيس "نيو هافن" الأمريكية "ستيفن كابلان"، أن مؤسسته قد وضعت منهجا قائما على القانون الدستوري الأمريكي من شأنه أن يجعل الطلاب السعوديين أقل مشاركة في أي أنشطة مثل القبض على المعارضين أو تعذيبهم أو إعدامهم.

وقال: "نحن نساعد في تطبيق نوع التغيير الذي يغرس في المواطنين هناك القيم اللازمة التي تجعلهم يقاومون ويعارضون مثل هذه الأعمال الرهيبة".

وأقر بأنه لا توجد لديه طريقة لمعرفة الأنشطة التي يشارك فيها الطلاب فور تخرجهم.

ويشبه الجدل الدائر حول علاقة السعودية بالتعليم العالي الأمريكي ما حدث منذ جيل مضى، حين دفعت الأوضاع حينها الجامعات للتخلي عن جنوب أفريقيا في عهد الفصل العنصري.

ومؤخرا، تدعو بعض الأوساط الجامعات إلى الانفصال عن (إسرائيل) احتجاجا على احتلالها للأراضي الفلسطينية.

وغالبا ما يريد أعضاء هيئة التدريس والطلاب، وكذلك المجتمعات المحيطة في المراكز الحضرية مثل كامبريدج، أن تعكس الجامعات قيمة أخلاقية واضحة، لكن مديري الجامعات، في جميع الحالات تقريبا، يقاومون.

وقامت السعودية بتخصيص نحو 650 مليون دولار للجامعات الأمريكية من عام 2012 إلى عام 2018، وتحتل المرتبة الثالثة في قائمة مصادر الأموال الأجنبية لتلك الجامعات، أي أنها تأتي مباشرة خلف بريطانيا، وفقا للبيانات الواردة في تقرير الهدايا الأجنبية.

وتحتل قطر المركز الأول، وهي دولة خليجية غنية بالنفط، ومنافسة للسعودية.

وهناك علاقات أخرى مثيرة للجدل للجامعات الأمريكية مع الأعداء الاستراتيجيين للولايات المتحدة، بما في ذلك روسيا والصين، مثل شراكة "معهد ماساتشوستس" مع حاضنة للتكنولوجيا خارج موسكو رئيسها هو الملياردير "فيكتور فيكسلبرغ"، الحاصل على ماجستير في إدارة الأعمال في الولاسات المتحدة، والموضوع على قائمة وزارة الخزانة للعقوبات على روسيا.

لكن البيانات الواردة في تقرير الهدايا الأجنبية غير مكتملة، ولا تمتثل جميع الجامعات لتقديم البيانات بنفس الطريقة، ويبدو أن بعضها لا يمتثل على الإطلاق.

وقد تتجاوز المدفوعات الدراسية وحدها من الحكومة السعودية مليار دولار في السنة، ولا تعد الجامعات نفسها واضحة حول ما ينبغي أن يقدم في التقارير.

ويقول مسؤولو "معهد ماساتشوستس"، إن إيراداته السنوية من عقوده مع "أرامكو" في الأعوام الأخيرة كانت عادة أقل من 10 ملايين دولار، وهو مبلغ ضئيل تقدمه شركة النفط العملاقة، التي تدر عائدات تقارب المليار دولار في اليوم.

وتتضمن الصفقات التي تمت مؤخرا البحث وتطوير طرق لاستخراج النفط بشكل أكثر كفاءة ونظافة، وكذلك "النمذجة الحاسوبية، والذكاء الاصطناعي، والروبوتات والتقنيات النانوية"، وفقا لبيان الجامعة.

لكن تلك الاتفاقيات مجرد جزء من صورة أكبر بكثير لشركات المعهد مع الشركات الكبرى في الولايات المتحدة وخارجها.

وتعد "أرامكو" عضوا في مبادرة الطاقة بالجامعة، إلى جانب "إكسون موبيل" و"شل" و"بريتيش بتروليوم".

ولدى معظم جامعات الأبحاث الكبرى الأخرى اتحادات مماثلة، كما تدفع الشركات رسوم العضوية لرعاية البحوث والاستفادة من النتائج.

المسؤولية الأخلاقية

وتثير المساهمات السعودية سؤالا آخر، وهو ما إذا كان يجب على الجامعات اتخاذ موقف سياسي أو أخلاقي.

وكان سلوك المملكة متطرفا بما فيه الكفاية لإلهام موقف نادر من الحزبين في واشنطن، حيث تم التصويت في مجلس الشيوخ، في يونيو/حزيران الماضي، لمنع مبيعات الأسلحة إلى السعودية والإمارات، شريك المملكة في الصراع اليمني.

وعندما قابلنا "شيرين العضيمي" في ولاية ميشيغان، بعد 8 أشهر من حديثها على رصيف كامبريدج، كانت واضحة حول ما اعتقدت أنه كان ينبغي على المعهد أن يفعله، حيث قالت: "كان عليه فقط أن ينفصل عنه"، في إشارة إلى ولي العهد.

وأضافت: "إذا كان هذا أمير حرب أفريقي من بلد فقير، فهل كنا سنجري هذه المحادثة.. هل كانوا سيحذرون للغاية بهذا الشكل بشأن كيفية استجابتهم؟"

في النهاية، حصل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على بعض الاحترام، حتى من جانب منتقديه.

ويقول "جريف بيترسون"، الزميل السابق في مركز "بيركمان كلاين": "إنها الجامعة الوحيدة التي كانت على استعداد للاستجابة على الإطلاق، ما منحنا شيئا للمضي قدما".

ومن المؤكد أن هناك أسبابا لمن هم داخل الحرم الجامعي للخوف من التحدث ضد النظام السعودي.

ففي أغسطس/آب الماضي، دعت وزيرة الخارجية الكندية، "كريستيا فريلاند"، إلى إطلاق سراح اثنتين من ناشطات حقوق الإنسان السعوديات المسجونات في توبيخ دبلوماسي للمملكة.

وردا على ذلك، انتقد السعوديون "الموقف السلبي والمفاجئ" لكندا، وأعلنوا قائمة طويلة من التدابير الانتقامية، بما في ذلك استدعاء عدة آلاف من الطلاب السعوديين الذين كانوا يدرسون في الجامعات الكندية.

وقد وافق طالب سعودي في الولايات المتحدة على أن أقابله بشرط أن أحمي هويته.

وردا على رسالة بريد إلكتروني، قال: "شكرا على التواصل، يرجى عدم استخدام اسمي أو انتمائي أو أي معلومات وصفية عني في أي عمل منشور".. وعندما التقينا، قال لى إنه "على عكس بعض الإصلاحات الاقتصادية التي تقوم بها الحكومة، تسير حرية التعبير في الاتجاه الآخر. ولا يمكنك المخاطرة حتى بالإعلان عن انتقادات معتدلة. أما إذا كنت ناقدا صريحا، فقد ينتهي بك المطاف في السجن".

وفي مكتب "ليستر"، أخبرته عن اجتماع عقدته في اليوم السابق مع مسؤول كبير بجامعة هارفارد، وقال المسؤول إنه "سيكون سعيدا للتحدث معي حول علاقة هارفارد بالمملكة".

لكن عندما أصبحنا في مكتبه، أخبرني بخجل أنه لا يمكنني أن أذكر اسمه، واعتذر قائلا إن "التوجيه جاء من شخص أعلى في الإدارة".

ووصل مدير جامعة هارفارد مكتبه وسلم لي بيانا مكتوبا من فقرتين، وقال إن الجامعة لم تعد تخصص 100 مقعد في برنامجها الصيفي للطلاب السعوديين، كان يتم رعايتهم من قبل مؤسسة ولي العهد الشخصية، والتي تعرف باسم "مسك".

ولم يوضح المدير بالتحديد سبب وقف الاتفاق، ولكن بين أنه "لم يتم تجديده".

وفي إشارة صريحة إلى قضية "خاشقجي"، قال البيان: "إننا نتابع الأحداث الأخيرة بقلق، ونعمل على تقييم الآثار المحتملة للبرامج الحالية".

وعندما أخبرت "ليستر" أن الآخرين يخشون الحديث عن المملكة، قال: "لدى المعهد ثقافته الخاصة، وهي ثقافة أعتقد أنها تقدر الحقائق".

وقد عرف "ليستر" أن كل ما أوصى به "ريف"، سيثير غضب بعض الناس.

وفي تقريره في ديسمبر/كانون الأول الماضي، أشار إلى أن المعهد كان على علم "بالقمع الداخلي والعدوان الخارجي" من قبل السعودية، لكنه حتى وقت قريب كان البعض ما زال يعتقد أن المملكة على طريق التحول إلى مجتمع أكثر تقدمية.

لكن "قتل خاشقجي شوه الكثير من هذه الآمال.. وكانت هناك أيضا حقائق خاصة في هذه القضية، لا سيما المزيج من الوقاحة والوحشية واحتقار الرأي الدولي، الذي تمثل في محاولة طمس الحقائق".

وطلب "ليستر" تعليقات من مجتمع الطلاب والخريجين وأعضاء هيئة التدريس في المعهد، وقد أراد أغلبية المشاركين في الاستطلاع قطع الجامعة علاقاتها المباشرة مع المملكة والكيانات المرتبطة بها عن كثب.

وفي تقرير لاحق، برر المشاركون في الاستطلاع اختيارهم بأن قلقهم لا يقتصر فقط على "خاشقجي ومحاولة التستر على الجريمة، ولكن أيضا الفظائع المرتكبة ضد المدنيين في اليمن، وقمع حقوق الإنسان، وغياب الحقوق الأساسية لتقرير المصير للمرأة، واضطهاد المثليين السعوديين، والهجمات على حرية التعبير في المملكة".

وفي السنة المالية الأخيرة، وفقا لـ "ليستر"، حصل المعهد على 7.2 مليون دولار لدراسات بحثية من 5 مصادر سعودية، وهي "أرامكو"، و"سابك"، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وجامعتان حكوميتان سعوديتان، وقال لي: "إنه مبلغ ضئيل للغاية من المال".

وفي النهاية، قطع المعهد اتصاله بكيان سعودي واحد فقط، وهو مؤسسة "مسك"، التي كانت عضوا في الشركات الراعية لـ"ميديا لاب".

وأوصى "ليستر" بأن يواصل المعهد عمله مع الشركات السعودية الأخرى، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة.

وأعطت الجامعة أعضاء هيئة التدريس الذين يعملون كباحثين رئيسيين خيار إنهاء التعاون.

وخلص إلى أنه يمكن التأثير في الشركات الأكثر ارتباطا بالنظام السعودي بمؤثرات اجتماعية معتدلة، على سبيل المثال، من خلال توظيف مهندسات ومديرات من النساء.

وقد قبل "ريف" توصيات "ليستر"، وميز في رسالته بين الحكومة السعودية والمواطنين السعوديين، وكتب: "من خلال معرفة هؤلاء الأفراد، من المستحيل عدم رؤيتهم منفصلين عن النظام الذي لم يختاروه ولا يستطيعون السيطرة عليه".

ورغم ذلك، كان منتقدو روابط الجامعة بالمملكة يأملون في استنتاج مختلف.

ويقول "جوناثان كينغ"، رئيس هيئة تحرير نشرة أعضاء هيئة التدريس في المعهد: "تحدث ليستر عن جزء ضئيل من الميزانية الإجمالية للأموال السعودية.. وكان يمكنه أن يقرر أنه لا يتعين علينا أن نتعاون مع القتلة والحكومة التي تسجن نشطاءها".

وتابع: "لكنه أصر على الحفاظ على تلك العلاقة. أنا لا أفهم ذلك. لماذا يرغب المعهد في تلطيخ سمعته الوطنية والدولية؟".