ثقافة » شؤون جامعية

انقراض الجامعات

في 2019/02/27

الوطن السعودية-
هل ستظل الجامعات التي نعرفها كما هي، أم ستتعرض لتغير نوعي يعيد صياغتها؟!
تتغير أنظمة التفكير، وتتغير معها أنظمة العمل. ففي العصر العباسي كانت مؤسسة المعرفة تأتي عبر ما سماه الجاحظ بـ«المسجديين»، إذ قال طلبت العلم عند الرواة وعلماء اللغة والنحو وغيرهم فلم أجده إلا عند المسجديين، إذ كان المسجد حينها هو الأكاديمية العلمية المفتوحة لكل شغوف بالمعرفة في أي فرع من فروعها في ذلك الزمن.
ثم جاءت الجامعة بوصفها دار العلم ومصنعه، ولكننا اليوم في زمن تغيرت فيه شروط المعرفة وأنظمة التفكير، بما إنها ارتبطت بخاصية المعاش البشري. فالمرء اليوم يتعلم ليعمل في ربط وثيق بين العلم والعمل، ومن ثم صار سوق العمل هو شرط الدراسة وسببها ونتيجتها. والجاحظ كان يتعلم من المسجديين كي يصنع له موقعا يؤمّن له معاشه ومقامه معا، وكذا هي حال طلاب العلم اليوم، بحثا عن موقع معنوي ومادي.
وكانت الشهادة الجامعية تقود إلى هذه المكانة وتحققها، ولكن وزير التعليم البريطاني خرج بمقترح ثوري يدعو إلى التفكير في التدريب بديلا عن الشهادة، ويرى أن أبناء الطبقة الوسطى يحتاجون إلى التدريب، ليضمنوا موقعا لهم في سوق العمل، وقال إن التدريب العملي خير من شهادة من الدرجة الثانية أو أقل. وهذا القول لا يقف عند وزير واحد محدد، فقد كثرت الطروحات التي تتكلم من مآلات نظام الجامعات التقليدية، ولنأخذ الرؤية السعودية 2030 بوصفها مشروعا للمستقبل يبدأ من الحاضر ويمتد إلى عقد من الزمن تتبعه عقود، وهو مشروع يعيد صياغة نظام التفكير، إذ تكون نهاية المشوار هي بداية الانطلاق، فأنت تخطو من اللحظة الراهنة لأنك تعرف النهاية، أي أن المنطلق هو النهاية وهي التي ترسم البداية، بتحول نوعي عن التفكير التقليدي الذي يجعل البداية مفتوحة لكل الاحتمالات، وهذا تحول في نظام التفكير، ويلزمه أن تتغير نظرية التعليم من الاعتماد على شهادة مختومة من جامعة إلى دربة تعتمد على شروط الهدف المبتغى، وكما تحول الجاحظ من مجالس الرواية والحفظ إلى حلقات المسجد التي يتنقل فيها من حلقة إلى حلقة، حتى كوّن له رصيدا معرفيا جعله سيد الثقافة في عصره، رغم فقره وقلة حيلته وضعف سنده الطبقي والعائلي. وهو تحدٍّ نجح فيه بسبب وعيه المتجاوز لمواصفات ظرفه، والحال اليوم تفرض مواجهة المعنى بما يقتضيه سياق الزمن، وهو زمن التحديات الكبرى عن مصير الوطن كله، بما أن الاقتصاد أصبح هو القوة العظمى للعصر، وكلما تقوّى اقتصاد الوطن تقوّى الوطن، وكذا الفرد فيما لو تقوّت اقتصاداته الذاتية، مما يؤدي إلى تقوية أسباب وجوده، وكما تقوّى الجاحظ في زمنه بقوته المعرفية وليس بنسبه ولا قبيلته ولا طبقته «وهو خلو من هذه كلها»، ولكن ذكاءه في كسر قيوده الظرفية أحلّه مقاما لم يحصل لمجايليه.
وفكرة الرؤية 2030 تقوم على بناء الاعتماد الذاتي للوطن، وللأفراد تبعا لذلك، ولذا تأتي فكرة الوزير البريطاني في التحول عن عقلية الشهادة الجامعية التقليدية لتكون هي المعنى العملي للمرحلة، وكل من عاش زمن الجامعة التقليدية وتحولات الأحوال من مجد الورق المختوم الذي كان هو مقاس العبقرية، إلى زمن تحول فيه النجاح لما هو بعد الشهادة، بحيث يجد الطالب نفسه في عمل يحتاج فيه إلى دورات ومهارات لم يتعلمها في الجامعة، وكثيرا ما يتفوق عليه آخرون لم يدخلوا في أي جامعة، أو خرجوا منها بتقديرات ضعيفة لكنهم يتفوقون على حملة الامتياز، وهنا تأتي نظرية «التدريب» مقابل الشهادة، لتكون هي التي تعتمد الهدف أولا، وهو ما يرسم خطوط المسار منذ بدايته.
وهذا تحول نوعي تتجه إليه النظريات لصناعة جيل يعتمد على مهاراته، وليس على ورقاته.
- 2 -
من المهم التنبيه أني لا أقول بانقراض الجامعات هكذا بإطلاق، ولكني أشير إلى حتمية حدوث تغير نوعي يمسّ نظرية المؤسسة الجامعية لتتحول من تقليديتها إلى معناها الجديد، وهو فكرة التدريب بما أنه حقيقة معنى التعليم المفضي إلى صناعة الجدوى، والجدوى اليوم هي القانون الاقتصادي ويجب أن تكون القانون التعليمي، ولا شك أن كل طالب وطالبة اليوم قد أصبحا على وعي تام بالجدوى من سنوات يمضيانها في الجامعة، في حين أنها لا تعطي مردودا واضحا ليساعد مستقبلهما.
وقد انتهى زمن كنّا فيه ندرس ونحن متأكدون من وظيفة نختارها دون عناء، وبمجرد الحصول على ورقة بكالوريوس، فهذا يعني وظيفة وأمانا يمتد إلى ما بعد سنّ التقاعد، ذاك رخاء فيه أمان مادي لكنه كان مخدرا للذهن، إذ كان مجرد النجاح الورقي يعني النجاح الاجتماعي، بينما هو في حقيقته مجرد نجاح بيروقراطي تجمدت معه عقولنا عن أي ابتكار ذاتي أو مهني، بسبب انعدام سؤال الجدوى وسؤال التنافسية.
وسأعطي مثالا يوضح مقاصدي، وهو مثال أقيسه على كلية الطب، حيث التعليم فيها يعتمد التدريب بمباشرة أَسِرة المرضى، ولعل أحوج الكليات إلى تبني هذا النموذج هو كلية التربية، تلك الكلية التي هي مصنع للأجيال ومستقبل الأجيال، ومن هنا تكمن أهميتها وخطورتها معا، وكثيرا ما يشعر خريجو هذه الكلية بضعف جدواهم العملية، حين يواجهون الواقع العملي في المدارس، ويشعرون أن ما عندهم من تعليم لا يكفي لمواجهة تحديات العمل، وأرى أن الحل هو في تبني نموذج كلية الطب، بحيث نجعل التدريب هو الأساس، ويشترك الأساتذة مع طلابهم في ميادين العمل بمباشرة التدرب على التدريس، واستلهام الفكر التربوي عمليا، ويكفينا عن شرح تفاصيل الفكرة أن نتخذ نموذج كلية الطب قياسا بقياس، وكما يضعون مستشفيات ملحقة بكلية الطب، نضع مدارس ملحقة بكليات التربية، والميدان هو المعترك العلمي والمهني والسلوكي.
وأضيف إلى ذلك فكرة متممة وضرورية، وهي أن تتعاقد وزارة التعليم مع الطلاب ليتعلموا على حساب الوزارة بعقود بين الطالب والوزارة، بحيث يرتبط العقد بتحديد مسار الطالب، وربط ذلك بالتقديرات العلمية التي يحققها، وكلما زاد تقديره تزيد معه مكافأته من الوزارة، وهنا سيحدث 3 أمور مهمة لصناعة المهارة:
أ- التعاقد مع الوزارة سيرتبط مع الحاجة الواقعية من ناحية الأعداد والتخصصات. وهذا ضمان للوظيفة لا قلق معه لأي من طرفي العقد.
ب- يطمئن الدارس على مصيره بما أن الجدوى من دراسته واضحة وليست موضع خوف من عدم وجود وظيفة له بعد التخرج، بما أن هَمّ الوظيفة هو هَمٌّ يحبط الطموح، ويجعل الطالب لا يكدح ولا يتعب نفسه بسبب إحساسه بالإحباط، والإحباط أصبح اليوم من أخطر فيروسات التعليم، لأن جدوى التعب صارت موضع سؤال خطير.
ج- كلما ربطنا بين المعدل الفصلي والمكافآت تحقق معنى التنافسية والتحدي الذاتي، بما أن ذلك يعطي معنى واقعيا للجدوى من الدراسة والتدرب. وتدخل المكافأة بمعادلة الزيادة والتنقيص حسب حال المعدل فصلا فصلا. من هذه الآلية العملية نستدعي المعاني الحيوية والواقعية في النظرية الاقتصادية «الجدوى والتنافسية»، وهي معان تدفع البشر إلى الإنتاجية، وكلما أحس أحدنا بجدوى ما هو فيه اطمأن على مستقبله وتفتحت نفسه للقبول، وهذا هو سرّ أي نجاح، ووقود أي مطمح، وبالتالي يكون التدريب متعة عقلية من جهة، ومتعة في تحقيق تطور ذاتي متدرج يمتحن فيها الطالب نفسه ويعرف نواقصه، بمثل ما يعرف مهاراته الخاصة، وبين هذين الاكتشافين الواقعيين سيطور نفسه وتتعزز معنوياته.
وفي الأخير أقول، نحن بحاجة إلى تفكير ثوري لا يتعلل بالأعراف التي حبست الأكاديمية على مدى عقود، وأصبحت عوائق ذهنية وتخطيطية، وإن لم نتقدم بثورية معرفية في نظريات التعليم، فإن جامعاتنا ستواجه لحظة انقراضها، وستصبح أبنية ضخمة، وستظل متاحف تحفظ ما فيها للعبرة وتذكر الماضي فحسب.