مجتمع » بطالة

العمالة الآسيوية الرخيصة: قنبلة موقوتة

في 2018/10/09

قاسم حسين- البيت الخليجي-

تتجمّع في الظلّ جميع المكوّنات المطلوبة لقنبلة موقوتة جديدة، ستداهم دول الخليج قريباً، مع استمرار تفاعلات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تراجع أسعار النفط.

في مطلع أغسطس الماضي، هزّت البحرين قضية مقتل إمام مسجدٍ بحريني على يد مؤّذن آسيوي، من الجنسية البنغالية، ما فتح ملف العمالة الوافدة، كما يحدث في كلّ مرةٍ تحدث فيها عملية قتل. وأعلنت الجهات الرسمية العثور على جثّة الضحية مقطّعةً في أكياس بلاستيكية، بمنطقة معزولة، ليتبين أن الجريمة وقعت نتيجة خلافٍ نتيجة المتاجرة بـ”الفيزا” على العمالة الأجنبية. كما تبيّن أن الجريمة شارك فيها أكثر من شخص، في موقع عبادي آمن، ما أثار موجةً من الغضب والنقاش العام حول استمرار الاعتماد على العمالة الأجنبية حتى في مجال رعاية المساجد أو الأذان.

هذه الظاهرة لا تختصّ بالبحرين، بل هي ظاهرةٌ خليجيةٌ عامةٌ، من عُمان جنوباً حتى الكويت شمالاً، حيث بات الاعتماد كبيراً على العمالة الأجنبية في مختلف الوظائف والمهن، سواءً التي تحتاج أو لا تحتاج إلى مؤهلات علمية أو مهارات فنية خاصة. وهو أحد أسباب زيادة نسبة البطالة بين المواطنين، مع تراجع سياسة توطين الوظائف، وسعي الرأسماليات المحلية إلى مراكمة الأرباح من خلال الاعتماد على العمالة الأجنبية الرخيصة.

هذا الوضع الذي بدأ مع الطفرة النفطية في السبعينات، استمر حتى الآن، وبات يفرز حقائق جديدة على الأرض في مختلف بلدان الخليج، رغم الصيحات المتكّررة والتحذيرات المبكّرة من استمرار هذه السياسة، التي تهدّد الهوية الخليجية. وبينما ظلّت السعودية محافظةً على غلبةٍ سكانيةٍ، تحوّلت المعادلة في البحرين والكويت لصالح الأجانب، بينما سبقها إلى ذلك كلٌّ من قطر والإمارات، حيث يمثل المواطنون نسبةً لا تتجاوز الـ10 أو 15 في المئة.

التجارة المسكوت عنها

اليوم، أصبح الحديث ممكناً عن تجارة الـ”فري فيزا”، بعدما كان مسكوتاً عنها لعقود، بسبب وجود جهات متنفّذة تستفيد منها. وفي الوقت الذي تجلب هذه التجارة غير الإنسانية المزيد من الأرباح السريعة من خلال المتاجرة بالأيدي العاملة، فإنها تخلّف الكثير من المآسي في بلاد المصدر، حيث يلجأ الكثير من الفقراء ومتواضعي الحال إلى بيع بيوتهم أو رهن عقاراتهم ومزارعهم أو الحصول على قروض، على أمل الوصول للعمل بإحدى دول الخليج، حيث تكوّنت لها صورة زاهية باعتبارها بلاد الغنى والنفط.

بداية الرحلة تكون مع الحصول على “الفيزا”، عن طريق سماسرة، ينتشرون على جانبي الحدود، وأحياناً يسعى لها عمّال آخرون وصلوا قبل غيرهم واندمجوا في سوق العمل وعرفوا أسراره ودهاليزه، فأخذوا يمارسون السمسرة والتوسّط لوصول عمّال جدد، سواءً من أهلهم أو من أبناء قريتهم أو مدينتهم، لقاء مبالغ كبيرة، يدفعونها أو يستلمونها هنا أو هناك.

في بلدٍ صغير المساحة ومحدود الموارد ويعاني اقتصاده من مشاكل بنيوية عميقة، مثل البحرين، برزت هذه المشكلة في السنوات الأخيرة بقوة، بعد سنوات من التغاضي عنها، فلجأت الدولة إلى تطبيق ما سُمّى بـ”النظام المرن” من أجل الإستفادة من هذه الورقة، لتشكّل مورداً إضافياً للموازنة، بدل تركه للسوق السوداء. فهناك 60 ألف شخص من “العمالة السائبة”، حسب التقديرات الرسمية، ووفق هذا النظام يمكن للعامل أن يشتري رخصة عمله بنفسه ويعمل في السوق، وذلك لن يغيّر من حقيقة وضعه كـ”عمالة سائبة” في سوق العمل، إلا من حيث تسجيله رسمياً.

مجتمعات مغلقة وكانتونات

الأعداد الكبيرة للعمالة الوافدة، النظامية منها والسائبة، لا تقتصر على شغل الوظائف التي لا يُقبِل عليها المواطنون، بل باتت تمثّل منافساً شرساً وتهديداً حقيقياً لهم في الحصول على فرص العمل المتناقصة في السوق.

العمالة الوافدة تتوزّع الآن على مختلف القطاعات الوظيفية، العليا والمتوسطة والدنيا، وإذا ما استثنينا الفئة الأولى التي تعيش في مناطق راقية، فإن الفئتين الأخريين تعيشان إمّا في مناطق مشتركة مع المواطنين أو في مناطق خاصة بما فيها أحياء المنامة القديمة، التي نزح منها أكثر أهلها باتجاه الضواحي وقاموا بتأجيرها. وفي الحالتين يخلق هذا الوضع عدداً من المشاكل الاجتماعية، ويثير العديد من شكاوى المواطنين، بسبب التجاوزات الأخلاقية واختلاف العادات والتقاليد، كانتشار ظاهرة السكر وسكن العزّاب والتعديات على الجيران.

إلا أن القنبلة المقبلة في هذا الوضع المعقّد، فتتركّز أكثر في الفئة الدنيا من العمالة الوافدة، التي تمارس أعمالاً هامشية بسيطة أو شاقة (مثل أعمال البناء والتشييد وتغسيل السيارات)، ذات مدخول محدود، وتتكدّس بأعدادٍ كبيرةٍ في مساكن شعبيةٍ قديمة، تفتقر إلى احتياطات السلامة، فيتعرّض عددٌ منها إلى حوادث حريق كل عام، تودي بالأرواح والممتلكات.

هذه العمالة الفقيرة التي تحاول الموازَنَة بين الراتب المحدود ودعم العائلة في الوطن بإيراد شهري، تعيش على غذاء بسيط ورخيص، وغالباً غير صحي، ستتأثر بالإجراءات الجديدة مثل زيادة الرسوم والضرائب والخدمات كالكهرباء والماء وارتفاع الأسعار عموماً مع جمود الرواتب، ما سيؤدي إلى إضعاف قدرتها الشرائية المحدودة أصلاً. وهو ما سيزيد من عوامل الضغط النفسي والمعاناة اليومية، وحالات الفقر والسرقة والاختلاس والغشّ وتجاوز القانون وتنامي ظاهرة التسوّل. وتنتهي بعض الحالات إلى الانتحار للتخلّص من الأعباء والضغوطات النفسية، (خلال العام الجاري سُجّلت حوالي 20 حالة انتحار أغلبها عمّال). وفي هذه الأحياء المغلقة تقوم سوق سوداء تتنوّع أنشطتها من الغذاء وترويج الخمور والمخدرات وتجارة الجنس إلى طرق التحويلات المالية للخارج.

مع استمرار الصعوبات الاقتصادية وبدء السياسات التقشفية، نصبح أمام مرحلةٍ جديدة، سيكون من ملامحها تقلّص أعداد العمالة الوافدة، كما حدث في السعودية، وفي المقابل، فإن الأعداد التي ستبقى اضطراراً أو اختياراً، ستجد نفسها في مواجهة ظروف اقتصادية تزداد صعوبةً، لتشكل رافداً إضافياً يغذّي أحزمة وأحياء الفقر المغلقة، لتصنع قنبلةً موقوتةً أخرى في الظلام.