ملفات » الخلافات القطرية الخليجية

حتى يعود الابن الضال

في 2017/06/07

كنت إلى وقت قريب أتحاشى الكتابة عن الخلافات السعودية - القطرية وتحولاتها الدراماتيكية السريعة، فقطر ليست جديدة على إثارة هذه الزوابع السياسية، التي تنتهي دائماً بالتصالح و«حب الخشوم»، كنت أقول سحابة صيف عن قليل تنقشع، كنت أرى أن تأجيج الخلاف لن يقود المنطقة برمتها إلا إلى مزيد من التوترات، وأنه ليس من المنطقي والطبيعي أن تضع السعودية ثقلها الجيوسياسي في مواجهة مع بلد جار صغير، هو في حاجة ماسة إلى الاستقرار وحماية جارتها الأكبر لها، وخصوصاً أن كتاب التاريخ ما يزال مفتوحاً على أحداثه وعبره حية ناطقة، تقول: إن قدر الدويلات الصغيرة مربوط حتما بالدول الكبيرة واقعاً جغرافياً وواقعاً سياسياً مؤثراً، وأنها لا محالة ستلجأ إليها ذات يوم، فيما لو اختلقت أزمة خارجية من نوع ما، بغية الاستحواذ الذي ربما تقود إليه الأطماع الاقتصادية التوسعية، إما باجتياح مباشر، كما فعل العراق مع الكويت، وإما غير مباشر كما يحدث اليوم مع الدول التي شهدت ثورات وانقلابات متعاقبة دمرتها، وكما قد يحدث لقطر الصغيرة ذات الإمكانات العسكرية عدة وعتاداً، ودول أخرى في المنطقة من جهة الخليج العربي الممتد عبر مياهه إلى حدود المياه الإقليمية الإيرانية، ورأينا «عياناً» كيف سلمت بلاغيات الخطاب القطري بتسميته الخليج الفارسي، بغزل مكشوف يدشن حقبة سياسية اقتصادية جديدة للتقارب القطري - الإيراني. لم يكن غاز الشمال المشترك بين البلدين، ذو المخزون الأضخم عالمياً شيئاً مستحدثاً يدفع بعجلة التقارب إلى هذا العمق، بعيداً عن إطار التنسيق الجماعي بين دول مجلس التعاون الخليجي ذات العلاقة المتوترة مع إيران، بسبب محاولاتها المستميتة تقويض أمنها، من خلال عملائها في الداخل.

لا أعتقد أن قطر تجهل كل هذا، ومع ذلك تُصر على أن تلعب منفردة، مشكلتها مع نفسها والآخرين أنها دائماً تلعب على المكشوف بعيداً عن قواعد اللعبة السياسية المشمولة بالالتزامات تجاه الآخرين، الذين رضيت وسلمت بالعمل داخل منظوماتهم، وأعني هنا «مجلس التعاون الخليجي»، و«جامعة الدول العربية»، و«رابطة العالم الإسلامي»، وهي في كل مرة تعلن صراحة سياساتها المتسرعة، بحجة أنها تبحث عن مصالحها ليس غير، ضاربة بقيم التعاون عرض الحائط، كتلك العلاقات التجارية التي أنشأتها مع إسرائيل، والعلاقات الدبلوماسية السرية، التي لم تعد سرية، والتي فتحت الطريق على مصراعية بين الدوحة وتل أبيب، فما لم تستطع الوصول إليه من خلال الأبواب المشرعة، تتجه فورا إلى الكيان الصهيوني كي يعينها على إيجاد منافذ سياسية تسهل لها الوصول إلى ما تريد، قد لا يشبهها في هذا السلوك سوى الطفل الذي يقترف عملاً لا يرضي أباه، ثم لا يلبث أن يعترف ويكابر فيه، إمعانا في تمثيل دور الرجولة الكاملة بين الكبار، الذين تركوا له الفرصة مرات ومرات ليجرب رجولته بنفسه، بينما أعينهم لا تنزع عنه كي لا يجر عليهم الويلات. مشكلة السياسة القطرية أنها لا تصنع مجدها بنفسها، فثمة معاونين من شتى بقاع الأرض، فترى الفلسطينيين والجزائريين والمصريين والسوريين على مختلف مشاربهم، يساريين وإخوانيين وعلمانيين، يستديرون حول مائدة آل ثاني، ثم تبحث عن القطريين فلا ترى منهم سوى منفذي السياسة المصطنعة حاملي حقائب «البنكنوت» يجوبون العالم شرقاً وغرباً، ثم تسأل ماذا تريد قطر؟ هل تبحث عن مجد مزور، بعيداً عن الاستثمار في الإنسان القطري، بالاستعانة بآلة إعلام مستوردة (قناة الجزيرة)؟ بهذا الخلط لن تستغرب كيف استطاعت قطر التوفيق بين علاقاتها الدافئة والحميمة بين إسرائيل وعلاقاتها الوطيدة مع «حماس»! علاقات متباينة وسيريالية، كأن تصنع علاقة حميمة بين جلاد وضحيته، لذلك لن نستبعد أن تجمع قطر بين قادة «حماس» ووزراء الحرب الإسرائيليين على مائدة واحدة، بما أنها الحاضنة لقادتها، ونتيجة هذا العبث السياسي تصدم جاراتها بها عملياً، لتكون الدعاية الإعلامية ذات عمق بلاغي مؤثر جداً، ينقل من خلالها للعالم صورة البلد الصغير الذي يقف أمام عاصفة هوجاء تثوّرها دول الجوار؛ كي يحمل العالم مسؤولية حمايته منها، بينما المسألة برمتها هي تعديل جذري في المسار السياسي القطري، كي تخلي نفسها من أي التزامات تجاه دول الخليج، فيما ستنتهجه مستقبلاً، فالأموال القطرية التي تعبئ المصارف الخارجية ستتحرك باتجاهات مختلفة لشراء مواقف وولاءات أخرى، فبمثل ما اشترت حفنة من القوميين واليساريين العرب، الذين رضوا أن يخضعوا لمزاد البيع والشراء، وبمثل ما اشترت «الإخوان» بالجملة، فستتجه إلى مزادات أخرى يباع فيها الرجال ويشترون، لأنها تستشعر اليوم أنها في مسيس الحاجة إلى تنويع الولاءات، استعداداً للمرحلة المقبلة التي ستوطد بها علاقاتها مع إيران، طمعاً في أن يكون لها دور إقليمي استراتيجي في المنطقة يسحب البساط من السعودية، ويدرأ عنها ما تتوجسه منها.

لقد ضمنت الدوحة اليوم بأنها ستصبح أكبر مصدر عالمي للغاز، متجاوزة في ذلك روسيا، ولكن لن يتم هذا إلا من خلال الإيرانيين أنفسهم، من أجل ذلك لن يفوتوا الفرصة للضغط عليها من أجل تقديم تنازلات تجعلها تضحي بجاراتها من حولها، قد تسفر هذه السياسة عن تخليها عن بعض مواقفها تجاه - مثلا - سورية، التي كانت تأمل ولا تزال بأن يمرر خط أنابيب الغاز من خلالها ليصل إلى تركيا، لاحقاً لن تهمها «النصرة» ولا «داعش» قدر ما يعنيها «الحوثي» و«حزب الله» وإرهابيو الخليج العربي المرتبطون بإيران، وخصوصاً بعدما تفشت أخبار العلاقات الدافئة الموثقة بعدد من الاتفاقات الأمنية الإيرانية - القطرية، منها السماح لقوات الحرس الثوري الإيراني بالدخول إلى العمق القطري، بذريعة محاربة الإرهاب، متجاهلة كل ما أحدثه الإرهاب الإيراني في منطقة الخليج، بدءاً من الكويت، مروراً بالبحرين والسعودية، لتضع ثقلها أخيراً في اليمن بعدما فشلت في الخليج.

اليوم كشفت سياسة قطر غير المتزنة عن حقيقة الغرور الذي تستشعره، مغموسة بأنانية مفرطة حداً بها إلى شق الصف الخليجي والعربي، والتطاول على دول أقل ما يقال عنها إنها عظيمة في تاريخها وموقعها، كمصر والسعودية، كما لم «يستح» القطريون من محاولاتهم المستميتة إدارة بؤر الصراع في سورية ومصر والعراق، كدولة عظمى، حاملة حقائب «البنكنوت» كموزع هدايا العيد على الأطفال الصغار. هنا لا أريد أن أعدد سقطات قطر السياسية، فقد قيل عنها الكثير، بيد أنه من المؤكد أن السياسة السعودية، كما يعرفها القاصي والداني في حلمها وأناتها المعهودين، لا يخرجها منهما إلا أمر جلل، هذا ما عرفناه، وفي أروقة السياسة الكثير الذي نجهله. 

محمد المزين- الحياة السعودية-