علاقات » عربي

قصة جزيرتيْن مصريتين.. فى بحر إقليمي هائج!

في 2016/06/25

قصة الجزيرتين المصريتين، تيران وصنافير، يمكن وينبغي أن تُحكى، ليس كما فعل الروائي البريطاني الأشهر تشارلز ديكنز في «قصة مدينتين»، كقطعة من الأدب الرفيع، ولكن كما يجب علينا أن نفعل، حيث يمتزج التاريخ والجغرافيا و «علم الأرض» والقانون الدولي والعلاقات الدولية، بل وعلم النفس السياسي وعلوم الاتصال الحديثة وفنون الدعاية التقليدية.
هكذا وضعتنا الأقدار وجهاً لوجه، حيث الشقيقان، في ميزان العروبة والتاريخ الحضاري، قد يبدوان متنازعَيْن، وعدوّ وحيد يتلّمظ!
وقد قلّبت أمري مليّاً في ثنايا القصّة الحائرة المحيّرة فوجدت عجباً أيّ عجب! ماذا وجدت؟
التوظيف الداخلي
وجدت أولاً أن السياسة الجارية في مصر قد تلاعبت بالوقائع والحقائق تلاعباً، حيث أصبحت القصة كرة من النار يتقاذفها اللاعبون يميناً وشمالاً، لا لشيء إلا لمحاولة إثبات صحة المواقف الداخلية للأطراف، والتي كانت غائمة لمدة عامين وأكثر، فأصبحت جليّة في رائعة النهار.
حتى أن «الاحتجاج» على موضوع تيران وصنافير تحوّل على يد بعض قوى المعارضة المعادية لنظام الحكم الحالي إلى مناسبة يتم الانتقال بموجبها من مرحلة «تشكيل التحالفات» إلى مرحلة «العمل الجماهيري». وكأن البعض منها يسعى إلى محاولة دفع نظام الحكم الوليد الراهن إلى القيام، ولو مضطراً، بما يمكن أن يشبه 5 أيلول/ سبتمبر 1981 جديدة ضد عدد من رموز التحركات الراهنة، سعياً إلى محاولة نزع رداء الشرعية السياسية والأخلاقية عن القيادة السياسية الحالية العليا.
السيطرة على المضائق
ثانياً: لقد رجعت إلى مصادر البيانات ذات الصلة، خاصة الوثائق والمستندات الأصلية الثابتة التي تم الرجوع إليها ضمن رسالة الدكتوراه في «القانون الدولي العام» المقدمة إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة من السيد فكري أحمد سنجر، العام 1978، تحت عنوان: «مشكلة المرور في خليج العقبة عبر مضيق تيران في ضوء ظروف الصراع العربي الإسرائيلي وأحكام القانون الدولي العام».
ويتبين من واقع البيانات المتاحة أن موضوع السيادة على الجزيرتين، من الناحية التاريخية، كان غامضاً، خاصة بشأن جزيرة تيران الواقعة في مدخل خليج العقبة من ناحية البحر الأحمر، وذلك حتى عامي 1949 أو 1950، كجزيرة صغيرة قاحلة تبعد قرابة أربعة أميال عن ساحل الحجاز، ونحو ثلاثة أميال من ساحل سيناء، وكانت تبدو «بلا صاحب» تقريباً آنئذ، ولا ترفع أي دولة عليها علماً!
ويختلف شرّاح القانون الدولي في بيان طبيعة ملكية الجزيرة المذكورة، مع ملاحظة أن الموقف من جزيرة تيران يختلف عن موقف صنافير. إذْ الأولى غامضة نوعاً ما، لوقوعها جغرافياً قرب منتصف المسافة بين الدولتين: مصر والسعودية، وإن كانت إلى مصر أقرب، بينما جزيرة صنافير أقرب إلى شاطىء الحجاز.
كما يختلف موقف جزيرة تيران عن مضيق تيران، فإذا كان الأول داعياً محتملاً للتنازع مع الدولة الوارثة للحجاز (المملكة العربية السعودية)، فإن موقف المضيق محسوم لمصر بحكم الامتداد القانوني للبحر الإقليمي.
ويشهد وضوح الموقف في جانب مصر، إذا انتقلنا من مضيق تيران عموماً، إلى ممر «إنتربرايز» ـ داخل المضيق - خصوصاً، وهو الممر الوحيد الصالح للملاحة ويقع على بعد 1,3 ميل بحري من الشاطئ المصري وعرضه الصالح للملاحة 0,3 ميل بحري فقط في مدخل خليج العقبة والملاصق لشاطئ سيناء، على خطّ ممتدّ من نقطة رأس محمد إلى نقطة رأس نصراني، فهذا الممرّ «مصري» خالص دون منازع.
ومع ذلك فقد وضعت منطقة تيران وصنافير بمجملها ـ الجزيرتان كلتاهما والمضيق والممر المذكوران ـ في حيز السيادة المصرية (المنقوصة نسبياً مع ذلك) ضمن المنطقة (ج) منزوعة السلاح إلا من جنود للشرطة المصرية، وذلك في الملحق الأمني لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل لعام 1979.
ومع ثبوت تبعية المضيق والممر للدولة المصرية، ما يجعلها في موقف حاكم تجاه «الجزيرة»، فإن من يسيطر على هذه الجزيرة يستطيع الهيمنة على سير الملاحة في الممر والمضيق، ومن هنا أهمية الربط بين المكونات الثلاثة: الجزيرة والمضيق والممر، في جميع الأحوال.
هذا، وقد اعتبرت حرية الملاحة في الممر بمقتضى قاعدة «المرور البريء» في القانون الدولي، مكفولة ومعترفاً بها من الطرف المصري، وبالأخص من واقع الالتزام التعاقدي المتجسّد في وثيقة «معاهدة السلام». فالهيمنة على المكونات الثلاثة إذاً لن يصبح في إماكنها التأثير على حرية الملاحة في المدى المرئي، ما دام ذلك الالتزام التعاقدي قائماً. بيْد أن ملكية أحد هذه المكونات (كالجزيرة) تصبح له قيمة رمزية عالية في سياق استراتيجيات الصراع على المضائق البحرية في عالمنا، وفي منطقتنا العربية بالذات (باب المندب ـ تيران ـ جبل طارق).
السجال القانوني
ثالثا: أشار بعض فقهاء القانون الدولي العرب من الآباء المؤسسين المصريين (نقصد حامد سلطان بالذات) إلى أن الجزيرتين تقعان في نطاق السيادة التاريخي للمملكة السعودية، ولكن لا يؤيد فقهاء آخرون من الآباء المؤسسين هذا الرأي، بل يعارضونه. وتبدو الحجج والحجج المضادة قائمة على قدم وساق بين الطرفين.
وقد تجيء هنا رسالة برقية شهيرة من الملك عبد العزيز آل سعود بتاريخ 17/1/1950 إلى الجانب المصري باقتراح وجود عسكري لمصر في الجزيرتين لمواجهة الكيان الصهيوني ـ الوليد آنئذ ـ عقب احتلاله بلدة أم الرشراش (إيلات حالياً) قبل عقد الهدنة بين الأردن وإسرائيل في 10 آذار 1949. وهي رسالة لا تقطع بحدّ ذاتها في موضوعات السيادة والملكية والحيازة لطرف ما، من منظور القانون الدولي، إنما تمثل إشارة يمكن تأويلها على وجهين متقابلين، لصالح هذا الطرف أو ذاك.
وقد جاء نص برقية الملك عبد العزيز المبلغة إلى وزارة الخارجية المصرية بتاريخ 17/1/1950 كالتالي:
«في مدخل خليج العقبة جزيرتان هما تيران وصنافير، وكان قد جرى بحث بشأنهما بيننا وبين مصر قديماً – وليس المهم أن تكونا تابعتين لنا أو لمصر وإنما المهم اتخاذ الخطوة السريعة لمنع تقدم اليهود إلى هاتين الجزيرتين».
وتأسيساً على ذلك، تم احتلال الجزيرتين يومي 25/1/1950 و 28/1/1950 ورُفع العلم المصري عليهما، وتم إبلاغ ما تم بواسطة السفير السعودي في القاهرة إلى الملك عبد العزيز في 30/1/1950، وقد وردت برقية جوابية إيجابية من الملك في اليوم نفسه، ثم أقامت السلطات العسكرية المصرية في «رأس نصراني» مدافع شاطئية تسيطر على الملاحة في ممر «الإنتربرايس».
وتجدر الإشارة إلى أن الطلب المذكور المرسل من الملك عبد العزيز قد سبقه اقتراح داخلي قدّمه مستشار الرأي بوزارة الخارجية المصرية (وحيد رأفت) في المذكرة رقم (20) بتاريخ 12/1/1950 (سري جداً وعاجل/ دوسيه رقم 2324/17-16) بالاستيلاء فوراً على جزيرة تيران ورفع العلم المصري عليها وإبقاء ما يمكن إبقاؤهم من الجنود.
وهكذا أخذت وزارة الخارجية المصرية تبلور موقفها الرسمي بعد حيرة طويلة كانت انتابتها، لدرجة أنها كانت ردّت على استفسار من وزارة الحربية والبحرية في كانون الأول 1928، عما إذا كانت جزيرتا تيران وصنافير تابعتين لمصر، وأفادت وزارة الخارجية بأن ليس لهاتين الجزيرتين ذكر في ملفات الوزارة. ثم قامت «الخارجية» بتوجيه استفسار إلى وزارة المالية (وتتبعها مصلحة المساحة) بتاريخ 3/12/1949 عن أي معلومات لديها بخصوص «جزيرة صخرية خالية من السكان تدعى جزيرة تيران تقع في مدخل خليج العقبة ولا تُعرف الدولة المالكة لها إلى الآن». وردّت وزارة المالية ـ بكتابها رقم (ف 219-1/4) بتاريخ 14/2/1950 أنه بالإشارة إلى الخرائط المساحية لعام 1937 (اللوحة رقم 6 جنوب سيناء) والمبين بها تلوين مرتفعات جزيرة تيران بالألوان نفسها التي بيّنت بها بقية المرتفعات بالأراضي المصرية، بينما تركت ما عداها بيضاء (ومنها جزيرة صنافير).
ونشير أيضاً إلى قيام وزارة الخارجية المصرية بإرسال المذكرة الشهيرة الموجّهة إلى السفارة البريطانية بتاريخ 18/1/1950 وإلى السفارة الأميركية بتاريخ 30/1/1950 وأكدت المعنى نفسه مذكرة وزارة الخارجية إلى السفارة الأميركية بتاريخ 9/4/1951، متضمنة أن احتلال الجزيرتين احتلالاً فعلياً من جانب مصر قصد به الحفاظ على الحقوق المصرية عليهما (وكل حق محتمل للمملكة العربية السعودية).
إن الإشارة هنالك بلفظة «محتمل» تحتمل الوجهين معاً، وتؤكده الرسالة الجوابية من الملك عبد العزيز ـ والمذكورة سابقاً ـ والمتضمنة أن موضوع الجزيرتين جرى بشأنه حوار (قديماً) بين الطرفين السعودي والمصري.
هذا وفي مواجهة ادعاء مصر ملكية جزيرة تيران على لسان المندوب المصري بالأمم المتحدة أمام مجلس الأمن بتاريخ 15 شباط 1954 وأنها تفرض سيادتها عليها وعلى صنافير منذ 1906 وأنهما تحت الإدارة المصرية منذئذ؛ جاءت في المقابل مذكرة المملكة العربية السعودية إلى الحكومة المصرية في آذار 1957 وإلى الأمين العام للأمم المتحدة في 12/4/1957، والتي طلبت توزيعها على وفود الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بأن جزيرتَيْ تيران وصنافير (في جنوب خليج العقبة) هما سعوديتان، وأن جزيرة فرعون (في شمال الخليج) مصرية. وهكذا، فإن ادعاء السيادة من طرف السعودية على الجزيرتين يصلح حجة تشير إلى إمكان وجود منازعة من الجانب السعودي للسيادة المصرية التي بدت مستقرة تماماً على الأرض عبر الزمن، عدا ما تسببت فيه أحداث العدوان الثلاثي العام 1956 والعدوان الإسرائيلي في حزيران 1967.
كما أن القرار الجمهوري للرئيس الأسبق مبارك رقم (27) لعام 1990 بتحديد نقاط الأساس المصرية لقياس البحر الإقليمي والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والذي تمّ إخطار الأمم المتحدة به في 2 أيار 1990 (والخطابات المتبادلة بين الدولتين في العام نفسه) يعتبر بمثابة إعراب عن «النية» لفتح ملف ملكية الجزيرتين، وإن بقي من دون استكمال أو حسم.
تشكيل التحالفات الإقليمية
رابعاً: تتضمّن بعض الوثائق (المسرّبة) أخيراً، وإن لم نتأكد من صحتها، أنه جرت ـ ولو بطريق غير مباشر ـ بعض المشاورات ذات الطابع الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية و «طرف ثالث» منذ العام 2014. فهل أن ذلك يبدو دافعاً لتحريك ملفّ الجزيرتين في الآونة الراهنة من طرف المملكة، اتصالاً بملابسات النزاع الاقليمي القائم في مواجهة إيران؟
وهل ذلك جزء من المسعى العريض لعملية إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية وخاصة بإدماج تركيا وإعادة تأهيل إسرائيل وعزل إيران وبناء زعامة جديدة على المستوى العربي والإقليمي؟
خامساً: إن عملية محاولة إعادة تشكيل لوحة التحالفات الإقليمية بزعامة المملكة العربية السعودية تواجهها تهديدات قوية، في مقدّمتها ما يأتي:
(1) انخفاض أسعار النفط وما يؤدي إليه من تقليص القدرات المالية للمملكة، بآثاره السلبية على القدرة الإنفاقية، سواء في مجال مواصلة التطوير الداخلي والتشغيل وأنظمة الحماية الاجتماعية، أو في مجال ممارسة الدور العربي والإقليمي بتكلفته الباهظة تمويلاً ومشاركة في التسليح وإدارة اللاعبين الهواة والمحترفين على السواء.
(2) استعصاء الرأي العام الشعبي في جمهورية مصر العربية، كأثر قوي لإرث العملية الثورية الكبرى لـ 25 يناير 2011، برغم عدم فطنة أطراف «المعارضة العدائية» في مواجهة نظام الحكم الحالي. هذا الاستعصاء ذو النّفس الثوري العميق يحول دون «نزع أسنان» الدولة المصرية أو دفعها دفعاً إلى القبول بمكانة هامشية ودور جانبي مرسوم في لوحة التحالفات الإقليمية المستهدفة.
(3) القوة النسبية للنظام السياسي لجمهورية إيران الإسلامية، وما يعبّر عنه من «تعددية داخل وحدة النظام»، بما يسمح بتجديد الدور الإيراني على الصعيدين العربي والإقليمي حتى لو تم ذلك من خلال «إعادة هيكلة» الدور الإيراني بتخفيف ثقل الوجود السياسي والبشري في نقاط معينة، و «إعادة الانتشار والتمركز» في نقاط أخرى. ويتعزز هذا الدور في حال استمرار رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة من طرف أميركا وأوروبا على إيران، في إطار تطبيق «الاتفاق النووي» بحسن نية.
(4) مساعي الإدارة الأميركية في ما تبقّى من فترة أوباما، وربما خلال العهدة الرئاسية المقبلة (في إطار «الحزب الديموقراطي» غالباً) من أجل إجراء انسحاب منظم من النزاعات الشرق أوسطية المتصلة بالدور الإيراني بالذات. ويدخل في ذلك، العمل على دفع المملكة العربية السعودية نحو القبول بإيران شريكاً إقليمياً مقبولاً، في حدود معينة، وتحجيم نزعات الانفراد المتطرف بإدارة ملفات الجوار السعودي في منطقة (المشرق ـ الخليج).
الخلاصة
مما سبق، يلاحظ ظاهرياً نوع من اختلاط وقائع السيادة والملكية والحيازة لجزيرة تيران بالذات وإن كانت أقرب إلى مصر بشدة، باعتبارها ظلت خاضعة للإدارة الفعلية وللسيادة المصرية بموافقة ولو ضمنية من الحكومة السعودية أغلب الوقت، ما يجعل المخرج الأكثر ملائمة، في ضوء القانون الدولي العام، ومن واقع السوابق الدولية ذات الصلة، بل والفيصل في حسم أي منازعة محتملة، هو إبرام اتفاق تعاقدي بين الدولتين المعنيتين لترسيم الحدود البحرية في ظل القواعد المرعية للقانون الدولي العام. وهذا ما حاولته مصر والسعودية مؤخراً، ولكن بصورة منقوصة وربما معيبة، شكلاً وموضوعاً. إن الاتفاق يفترض مسلّمة التراضي. وينشأ التراضي المتبادل عن الرضا. فهل الرضا متوفر في الحالة المجتمعية المصرية الراهنة؟ ذلكم هو السؤال المحوري الآن.

محمد عبد الشفيع عيسى- السفير اللبنانية-