جاسر الدخيل- خاص راصد الخليج-
كنت أسمع دوماً وأقنعت نفسي ولقّنت أبنائي بما آمنت به، أن المملكة العربية السعودية هي قلب الوطن العربي والإسلامي النابض، وأن ولاة الأمر من الملوك والأمراء هم طليعة القوم الذين يعملون لصالح الناس، ليس فقط في المملكة، بل لكل إنسان في المشرق العربي ومغربه، وكنت أشعر بالفخر حين أرى علم السعودية يرفرف متوجاً بعبارة الشهادة الكبرى: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهي عنوان انتماء وهوية، ولكن؟!
كنت أستمع دوماً لأسئلة أخوتي وأبنائي في كل مرة يعتلي العرش ملك جديد، يريدون معرفة ما هو مستقبل المملكة بعد وداع الملك الراحل واستقبال العهد الجديد، وكان دوماً جوابي أن العهد بعين الله دوماً، طالما أن خدمة الحرمين الشريفين هي الشعار والمرتكز والقاعدة الراسخة، وهي الحصن لنا من كل شر يأتي من أعداء الأرض والعرض، ولم أكن أرضى بأي تشكيك، حتى ولو بالإشارة أو بالهمز واللمز، ولكن؟!
جاء الملك الأخير سلمان بن عبد العزيز وكما اعتدنا في مراسم التسليم والمبايعة، فوّضنا أمرنا إلى الله والملك، وعاهدنا على الولاء والوفاء.. ومرة جديدة انهمرت الأسئلة، ولكن هذه المرة كبر الأخوة والأبناء ولم تعد أساليب قمع الهمز واللمز تجدي نفعاً، ليس فقط لأنهم باتوا في طور العقل والفهم، وليس فقط لأنهم ما عادوا يحتاجون إلى موقف إقناع من بالغ حكيم، بل أيضاً لأني لم أعد مقتنعاً بكل المسلّمات التي كنا وأترابي نقولبها في أذهاننا حقيقة وقدر.
لم تعد المملكة كما كانت، فأمراؤها بغالبيتهم خلف الجدران فاسدين، ووزراؤها بغالبيتهم رهن التحقيق والتدقيق، وأبناء عبد العزيز في جيلهم الثاني والثالث، وأبناء أخوته وعمومته، وكل رموز المملكة هم الآن تحت مقصلة سلطان واحد، وليس هناك من دعاة ولا من يدعون، وليس هناك من مجالس شورى ولا من يشورون، حتى كأننا لم نعد واثقين بمن نصلي خلفه في الحرم المكّي، خوفاً من أن يصبح غداً سجيناً بجرم الفساد.
لا نخالف ولي العهد في مسار الإصلاح ومحاربة الفساد، ولكن زجّ أكثر من نصف ولاة الأمر في السجن مسألة فيها أكثر من مجرد نظر، فما ألفنا الخوف كما نعايشه اليوم، وبتنا نخاف أن نفتقد وجوهاً اعتدنا على أن نقابلها يوميا في الشارع وعلى شاشات التلفزة، وها هي اليوم أصبحت في عهد محمد بن سلمان بلا عقال، حاسرة الراس محدودبة، يعتليها العار من القمة إلى القاع وحتى أخمص القدمين، وما البديل؟! وإلى أين السبيل؟ وهنا محور القضية.
جاء إلى المملكة أمراء جدد، غاب فهد ومتعب والوليد وخالد، وجاء دونالد وجيري وماكس وجاريد، ولم تعد المرأة ممنوعة من امتهان السير الآلي بل هي الآن تعتلي المنابر وتطلق الصوت على مدى الحناجر، وباتت إيفانكا وميلانيا، اللتان خلبتا عقول ولاتنا في قصر خدّام الحرمين، أيقونتين معلّقتين في منازلنا ونساءنا وبناتنا تتلو لهما عهد التماثل، وشبابنا المسلوبة عقولهم أصلاً أمام سحر الغرب فرّغوا جماجمهم لأدمغة جديدة.
ماذا فعلت يا ابن سلمان؟! إنه الإنقلاب، وليس كأي انقلاب.. ضباطنا وجنودنا مشغولون بحرب ما زلنا نجترّ خسائرها على جبهة الجنوب في اليمن، وناسنا في المدن والقرى على حد سواء مشغولون بمواجهة التدهور المستمر في معيشة اليوم والشهر والسنة، وأصحاب المصالح والمشاريع من السعوديين داخل الوطن يفرّغون خزائنهم من الأموال إلى بنوك الخارج خوفاً من الرهن والمصادرة، ولم نعد نسمع في الأروقة والشوارع إلا وعوداً بأرض المن والسلوى على ضفاف البحر الأحمر بالقرب من الجيران الجدد المستوطنين في أرض فلسطين.. إنه انقلاب الذات على الذات، وخلع ثوب الهوية والنزوع إلى الشتات.
ماذا فعلت يا ابن سلمان؟! هل ستبقى المملكة سياج وجودنا أم أصبحت شركة مساهمة دولية، وتحوّلت إلى مؤسسة قابضة على مصالح الناس ومصائرهم ومستقبلهم؟! هل سينعم السعوديون بالخير في عهدك أم ستحوّلهم إلى أجراء في شركات الأجانب التي بدأت ترهن البلاد بمشاريع الاستثمار تحت شعار الغد الأفضل؟! هل سنرى هويتنا في أرضنا بخيراتها وثرواتها أم سنصبح غرباء نستجدي اللجوء والبقاء في أرض الآباء والأجداد؟! لم تعد المملكة السعودية كما كانت مع انقلاب ابن سلمان فقد صارت نيو – سعودية والأحرى به أن يسمّيها مؤسسة "سلمانكو وشركاه" من غير أبناء البلد، وحينها نعلم أين نستقر ونسكن، وأين نعيش ونستوطن.