تكرار مشكلة الاختناقات المالية في عدد من دول الخليج في كل مرة تنهار فيها أسعار النفط، رغم الأحاديث والتأكيدات المتكررة بشأن الالتزام بسياسة التنويع الاقتصادي، ينم عن وجود خلل ما في هذه السياسة التي لم تسعف دولاً خليجية على مقابلة تحدي الانحسارات المفاجئة لإيراداتها من قطاع انتاج النفط
من جديد يخذلها النفط، فمنذ أن هوت أسعاره منتصف عام 2014، ومعظم دول مجلس التعاون تواجه مشكلة عدم كفاية حصيلة جبايتها من الإيرادات النفطية لتغطية جانب مصروفاتها، بشقيها المتكررة والرأسمالية، في ميزانياتها العمومية. هو نفس السيناريو يتكرر بكامل تفاصيله عندما يتجاوز مستوى انخفاض سعر برميل النفط نقطة التعادل التي تتوازن فيها على الأقل الإيرادات مع المصروفات. وذلك رغم الجهد المبذول من قبلها لتوسيع قاعدة التنويع الاقتصادي بعيداً عن هيمنة النفط على الخط الرئيسي لنشاط الدورة الاقتصادية.
تكرار مشكلة الاختناقات المالية في العديد من الدول الخليجية في كل مرة تنهار فيها أسعار النفط، رغم الأحاديث والتأكيدات المتكررة بشأن الالتزام بسياسة التنويع الاقتصادي، ينم عن وجود خلل ما في هذه السياسة التي لم تسعف دول التعاون على مقابلة تحدي الانحسارات المفاجئة لإيراداتها من قطاع انتاج النفط.
فالحال أن التنويع طال إجمالي الناتج، ولكنه ظل بعيداً جداً عن متناول الموازنات العامّة لدى غالبيتها، ذلك لأن الإجمالي حتى بحالته المتنوعة المبلوغة، لا يسهم بقسطه في تأمين إيرادات الموازنات المقابلة لجانب المصروفات المتصاعدة بطبيعتها بسبب ازدياد المتطلبات التنموية (الاقتصادية متمثلة في المشاريع الرأسمالية) والاجتماعية.
في شهر يونيو حزيران من عام 2016 أصدر صندوق النقد الدولي تقريراً حول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، جاء فيه، فيما يتعلق بالمالية العامة أن دول مجلس التعاون والجزائر ستجتاز عاماً آخر عسيراً على صعيد ماليتها العامة، وأن معدل نموها الاقتصادي سينخفض من 3.6% في عام 2015 إلى 2.1% نهاية 2016، نتيجة لانهيار أسعار النفط، وأن عجوزات موازناتها ستشكل 13% من إجمالي نواتجها المحلية، بعد أن كانت سجلت فائضا في عام 2013 بلغت نسبته 8.5%.
توقعات الصندوق تذهب إلى أن عجوزات الموازنات منسوبة لإجمالي النواتج المحلية ستدور حول متوسط 7% خلال الفترة بين عامي 2016 و2021، برصيد تراكمي يصل إلى حوالي 900 مليار دولار، وأن إجمالي الدين العام منسوباً لإجمالي النواتج المحلية سيرتفع من 13% نهاية 2016 إلى 45% بحلول عام 2021، محذراً من أنه سيتعين على هذه الدول، خصوصاً تلك الأكثر تأثراً بانخفاض أسعار النفط مثل مملكة البحرين التي توقعت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية أن تصل نسبة الدين العام إلى إجمالي ناتجها المحلي إلى 100% بحلول عام 2019، ارتفاعاً من 59% في عام 2015 - من أنه سيتعين عليها تسوية 10% من ديونها إذا أرادت تفادي اللاتوازن المالي الذي يمكن أن يعرض عملاتها لهجوم المضاربين.
وكانت «موديز» قد خفضت التصنيف الائتماني لكل من مملكة البحرين وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية مرتين في ظرف ثلاثة أشهر فقط في العام الماضي، الأولى في 17 فبراير 2016 والثانية في 14 مايو 2016، بدعوى أنها الأكثر تأثراً بانخفاض أسعار النفط.
وبعيداً عن عدم حيادية وبراءة التقييمات للموقف المالي للدول والشركات التي تُجريها وكالات التصنيف الائتماني، وعددها ثلاث وكالات هي بالاضافة الى «موديز»، «ستاندرد أند بورز» و«فيتش»، وكلها أمريكية..
وأيضاً بعيداً عن عدم واقعية التنبؤات متوسطة المدى التي ساقها صندوق النقد الدولي (حتى عام 2021) بالنسبة لعجوزات الموازنات الخليجية منسوبة لإجمالي الناتج، وإجمالي الدين العام منسوباً لإجمالي الناتج المحلي، نظراً لبنائها على بارومتر (مؤشر) تفترضه معادلة التنبؤ ثابتاً، فيما هو متغير بحسبانه سلعة استراتيجية حساسة لا زالت تعتبر محورية في «موتور» الحركة الاقتصادية العالمية ووقودها الأهم قطاع توليد الطاقة - نقول بعيداً عن ذلك، فإننا نعتقد بأهمية وضرورة أخذ الموضوع هذه المرة بجدية أكبر، تتجاوز الإجراءات التقليدية، «الترميمية» التي تلجأ إليها حكوماتنا في أوقات «الجزر» المالي الناتج عن تدهور سعر برميل النفط، وعدم الاكتفاء بالاهتداء بما تسديه المنظمات الدولية من مقترحات ونصائح وعدم إطالة التوقف طويلاً أمامها بقدر استنباط وابتداع حلول نابعة من طبيعة حاجاتنا وأولوياتنا التنموية، الاقتصادية والاجتماعية.
يتعين الأخذ بعين الاعتبار مُعطى في غاية الأهمية ألا وهو أن الإنفاق عبر الموازنة يشكل عماد سياسة تثوير النمو الإجمالي من خلال الأموال الضخمة التي ترصد سنوياً لميزانية المشاريع في الموازنات العامة.
استكمالاً لما عرضناه في مقال سابق حول «خذلان» أسعار النفط من جديد (اعتباراً من منتصف 2014 وحتى اليوم) لواضعي ومديري السياسة المالية في عدد من بلدان مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وللاقتصادات الخليجية عموماً، وإجبار هؤلاء على تطبيق إجراءات استثنائية تشمل اقتطاعات من الدخول من هنا وهناك لتعويض «الفاقد» في جانب الإيرادات للموازنات الخليجية التي تحولت من الفائض إلى العجز.
وعرضنا للسيناريوهات التي رسمها صندوق النقد الدولي وبعض مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية (الأمريكية واقعاً) بشأن مستقبل عجز الموازنات الخليجية منسوباً لإجمالي الناتج المحلي، وإجمالي المديونية العامة لكل من الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون، الناجمة عن تراكم عجز الموازنات، منسوباً لإجمالي الناتج المحلي، حيث سيبلغ متوسط نسبة عجز الموازنات إلى الإجمالي 7% سنوياً خلال الفترة من 2017 إلى 2021، فيما سيبلغ إجمالي الدين العام إلى الناتج المحلي في عام 2021 نسبة 45%، ارتفاعاً من 13% في نهاية عام 2016. وهي نواتج أداء كمية غير مريحة كما تلاحظون تستأهل معالجات تتجاوز إجراءات التقشف التقليدية التي درج مصممو السياسات المالية على التوصية بتطبيقها في المرات التي شهدت فيها أسعار النفط جزراً مؤثراً.
في هذا الإطار يتعين الأخذ بعين الاعتبار مُعطى في غاية الأهمية بالنسبة لإعادة رسم السياسات المالية لمقابلة الضغط الشديد الواقع على أموال الخزائن العامة نتيجة للانحسار الكبير في إيرادات النفط، ألا وهو أن الأنفاق عبر الموازنة يشكل عماد سياسة تثوير نمو الإجمالي من خلال الأموال الضخمة التي ترصد سنوياً لميزانية المشاريع في الموازنات العامة.
هذا يعني أن عبء تدوير وتصعيد وتيرة النمو ملقى بشكل أساسي على معامل (G) في معادلة إجمالي الناتج، أي على الإنفاق الحكومي، فيما يتوزع القسط الباقي على معامل الاستهلاك (C)، ومعامل الاستثمار الخاص (I). من دون أن نسقط بطبيعة الحال المعامل الآخر المهم في معادلة إجمالي الناتج، وهو معامل حاصل الفارق بين الصادرات والواردات (X - M)، هذا طبعاً في حال كان الميزان التجاري إيجابياً، بمعنى أن يكون التصدير أحد مصادر نمو الإجمالي.
سبب وقوع عبء حقن موتور نمو الإجمالي على الإنفاق الحكومي عبر ميزانية المشاريع في الموازنة العامة، ناجمٌ عن تواضع مساهمة القطاعات غير الحكومية في دعم إيرادات الموازنة بسبب غياب ضريبة الدخل (التي تشمل الضريبة على مداخيل الأفراد والضريبة على أرباح الشركات). وقد ظل خلو الاقتصادات الخليجية من ضريبة الدخل، أحد أكبر ميزاتها التنافسية، في جذب وتشجيع الاستثمار وقوة العمل الماهرة.
هذا الوضع سوف يتغير في المستقبل غير البعيد بالنظر ليس فقط للأوضاع الصعبة التي تعيشها هذه الأيام المالية العامة للبلدان الخليجية، وإنما استجابة ملحة لتحديات هيكلية اقتصادية تتصل بوضع سلعة النفط المستقبلي في ميزان مصادر الطاقة العالمي ومتطلبات إحداث تحول نوعي في هياكل الاقتصادات الخليجية.
ولعل هذا يفسر جزئياً مسارعة مصممي السياسة المالية في الاقتصادات الخليجية لتفضيل مزيج من سياسات التقشف في الإنفاق مع سياسات جبائية ضريبية (غير مباشرة في المرحلة الأولى)، لزيادة غلة إيرادات الموازنة، ثم الصعود درجة ثانية باتجاه فرض ضريبة القيمة المضافة اعتباراً من يناير 2018.
السؤال الآن: هل هذه الجبايات المتفرقة ستحل مشكلة العجز في الموازنات الخليجية على المدى البعيد؟ موضوع يستحق المناقشة.
د. محمد الصياد- الخليج - الشارقة -