خليل علي حيدر- الايام البحرينية-
تحتل الجامعة، أو «نيل الشهادة الجامعية»، مركزًا محوريًا في حياة وقيم الطبقة الوسطى أو من يحلم بالالتحاق بها والتمتع بميزاتها المتوقعة.. وفي العالم العربي كثيرًا ما ترهق مصاريف الدراسة الوالدين والدولة عامًا بعد عام.. والتكاليف في تصاعد وازدياد.
جل مجهودات ومصروفات الأسرة ومدخرات الأفراد ومساعي الأب والجد والجدة، وبالطبع ميزانيات وزارة التربية وملايينها، تستهدف عمليا تحويل جيوش طلبة المرحلة الثانوية إلى حملة شهادات جامعية.. بمختلف الدرجات والتخصصات. هل هذا هو الطريق حقا لحل مشكلة البطالة مثلاً في مصر ودول الخليج وسائر دول المشرق والمغرب؟ وهل يعقل أننا بحاجة إلى كل هذا العدد من الجامعيين، وأن حياتنا الإنتاجية تستدعي وجود هذا الجيش الجرار من الخريجين، وأن الإنسان في بلادنا «سيفقد مستقبله»، إن لم يواصل تعليمه الجامعي؟ وهل الأثرياء و«السابحون في الملايين» وعامة الأغنياء من الخريجين؟
بالطبع، لا أريد أن أوحي لأحد أن «التعليم العالي» الجامعي غير ضروري على الإطلاق، ولا أن أقول إن المجتمعات في البلدان المتقدمة والنامية ليست بحاجة إلى هذه الشريحة في العديد من المجالات، أو أن انتشار التعليم الجامعي لا يحمل ما يحمل من دلالات الثقافة والنهضة وغير ذلك. ولكن ما يجري اليوم في العالم العربي وربما العديد من دول العالم الثالث، كارثة حقيقية بحق الشباب والجامعات والإنتاج وبرامج معالجة البطالة. فقد تراجعت مكانة الجامعات العربية وتدهورت مرافقها وأجواؤها، وغرق الأستاذ الجامعي في العمل الروتيني المرهق بعيدا عن البحث والعطاء العلمي والمنافسة الدولية في هذا المجال، وانتشرت ألوان الفساد والغش وضعف المستوى التحصيلي في معظم الجامعات العربية، حيث يتم انتهاك جودة التعليم الجامعي بتكديس الطلبة على المدرجات وفي الفصول، و«تسلق» العلوم والمعارف بالملخصات، ثم تقوم الدولة بعد ذلك، وسط احتفالات زاهية، بحشر وفرض الخريجين والخريجات في الإدارات الحكومية التي تعاني في كل دولة عربية من البطالة المقنعّة، أو تعمد الدولة أحيانا، بإجبار القطاع الخاص على توظيفهم، إلى جانب تدافع وتزاحم الكثيرين من «الطاقات الشابة» في بعض الدول العربية، على الهجرة والعمل في الخارج، ربما في مهن لا تحتاج حتى إلى الشهادة الابتدائية!
فإلى متى يمكننا الاستمرار في هذا التظاهر بالدراسة والتخرج والتوظيف، وإلى متى يمكننا إيهام الناس وأنفسنا والعالم الخارجي الذي يدرسنا ويحلل مجتمعاتنا، بأننا فعلاً مجتمعات حية منتجة مثل بقية المجتمعات الحديثة؟
الولايات المتحدة لحسن الحظ تشبهنا في تقديس الدراسة الجامعية وأن يكون كل مواطن «خريجا» أو ممن دخل الجامعة بعد الثانوية!
ولكن الكثيرين منا لا يعرف أن الطالب الأمريكي يقترض من البنوك ليكمل تعليمه الجامعي، ويتخرج مثقلاً بالديون رغم كل التسهيلات إن لم تسعفه مساعدات الأهل. وينصح الكثيرون أبناءهم بالمعاهد الصناعية ومهن الكهرباء والتبريد والتمديد وغيرها، وتجنب الدراسة الجامعية التي تعطي الوجاهة ولكنها لا توفر العمل الفوري، إلى جانب ديون الدراسة، حيث يمضي الطبيب الأمريكي والطبيبة والمحامون وغيرهم سنوات طويلة يسددون القروض والفوائد.
ويقول تقرير في الشرق الأوسط ان مدارس التدريب المهني في امريكا «تتلقى اكثر من أربعة آلاف طلب التحاق لنحو 230 مجالاً مختلفًا سنويًا، مما يعطي معدل قبول يعادل نظيره في (هارفرد) تقريبا». وحيث يغادر الخريج التقليدي لإحدى الكليات الخاصة التي تعمل بنظام الأربع سنوات الحرم الجامعي في 2014 وهو مدين بنحو 45 ألف دولار عن السنة الواحدة، يتخرج طلبة المدارس المهنية من دون ديون، ويمكنهم أن يربحوا ما يقرب من عشرة آلاف دولار في أول وظيفة يلتحقون بها. وقال أحد الخريجين لمعد التقرير إن «كثيرًا من أصدقائه في فترة التعليم الثانوي تخرجوا في الجامعة وعادوا للعيش مع آبائهم، لكن في المقابل، يمتلك منزلاً بالفعل وهو في عامة الـ23، ولا يتحمل أي دين دراسي ويحصل على 18 دولارًا في الساعة، وقال: «لم أشأ أن أجلس في حجرة الدراسة لأربع سنوات، إن المفاضلة ما بين التعليم الجامعي والمهني، يقول كاتب التقرير نيتسون شوارتز، تثير على نحو لا مفر منه واحدًا من أكثر الأسئلة إشكالية على الصعيدين التعليمي والاقتصادي اليوم: من ينبغي -أو لا ينبغي- أن يلتحق بالجامعة؟» (10/8/2015)
هل كانت هذه الأعداد الضخمة من الجامعيين التي تملأ مكاتب إدارات ومؤسسات دول الخليج والعالم العربي دون إنتاجية ملموسة، ستحصل على وظائف لو كانت مقاييس القبول والتوظيف والإنتاجية في أمريكا واليابان سائدة في بلداننا؟
نحن في الواقع نخسر أكثر من مرة! فالتعليم الجامعي مجاني أو مدعوم، والتوظيف حتى في الدول العربية الضعيفة الدخل شبه مضمون، وكل البشر غير المنتجين في بلادنا يتحكمون من خلال السلطات والوزارات والقرارات بالشركات والمؤسسات الناجحة المنتجة! ثم لندرس الأوضاع في دول مجلس التعاون كمثال من الزاوية العملية. لماذا يكتفي المواطن بالوظيفة الحكومية ودخلها المحدود لسنوات، بينما قد يصل إلى بعض هذه الدول عمال بسطاء معدومو المهارات، وينجحون خلال سنوات من اتقان مهنهم ويصبحون أساتذة أو «معلمين» في مجالات البناء والكهرباء والميكانيك وغيرها، ويجنون أعظم الدخول؟
السلام والتحية لأحد العمال الهنود القادمين إلى المملكة من ولاية «كيرلا» الهندية قبل ربع قرن كان فقيرًا معدمًا، واليوم هو قصة نجاح حقيقة.. يقول الكاتب السعودي: «تحية إعجاب لـ(رميش)، الذي وصل لهذه البلاد معدم المهارات، واستثمر المساحة المفتوحة للتعلم والتدريب حتى أصبح (معلما) في المجال المهني، وحسرةً اكبر على أجهزة تقود التعليم والتدريب». (17/8/2015)
هل الخريج المصري «مشروع هجرة» بالضرورة؟ كلا بالطبع، فدول كثيرة سكانها بالملايين وتتوافر داخلها فرص عمل مجدية. وتبلغ موازنة التعليم في مصر 118 مليار جنيه سنوياً، «يذهب معظمها لأجور المدرسين والجهات المعاونة والإداريين بالوزارة». (الشروق الأوسط، 16/11/205)
ويقول السيد «حسن القلا»، رئيس مجلس إدارة شركة القاهرة للاستثمار، وأحد أهم المستثمرين في مجال التعليم، ان هناك فرصا للاستثمار في كافة مراحل التعليم حتى الجامعي، «فالأعداد كبيرة في الجامعات الحكومية، ونحتاج لتفكيك كل جامعة حكومية بعشر جامعات، فالدفعة الواحدة في كلية تجارة في جامعة القاهرة يبلغ عدد طلابها 7000 طالب».
ويقول محمود نجم، معدُّ نفس التقرير في الصحيفة، إن «مدرج العيوطي» في كلية تجارة بجامعة القاهرة يكتسب شهرة واسعة على مستوى الجمهورية، «حيث توجد بالمدرج ظاهرة تأجير الكراسي المحمولة؛ لأن عددًا كبيرًا من الطلبة لا يجد مكانًا في المدرج الذي يصل ارتفاعه إلى ثلاثة أدوار»!