دول » السعودية

من الجد إلى الحفيد: الثابت العربي الفلسطيني

في 2025/11/28

تركي الفيصل - الشرق الأوسط

في حوار جانبي خلال اجتماعات مؤتمر يالطا، المنعقد في شهر فبراير (شباط) عام 1945، بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، وونستون تشرشل رئيس وزراء المملكة المتحدة، وجوزيف ستالين الزعيم السوفياتي، لتقرير نهاية الحرب العالمية الثانية ووضع ترتيبات السلام المستقبلي وبناء نظام دولي ليضمن هذا السلام المنشود؛ حاول ستالين إقناع الرئيس روزفلت بالبقاء في يالطا وقتاً أطول عند نهاية المؤتمر، فأجابه روزفلت بأنه على موعد مع ثلاثة ملوك في الشرق الأدنى، منهم الملك ابن سعود (المغفور له الملك عبد العزيز)، فسأله ستالين: ما الهدية التي تنوي إهداءها لابن سعود؟ فأجابه روزفلت بأن الامتياز الوحيد الذي يمكن تقديمه له، هو الستة ملايين يهودي الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية.

عُقِدَ اللقاء المرتقب بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في الرابع عشر من شهر فبراير (شباط) 1945، وَرُدَّت الهديةُ، بالتأكيد على أن فلسطين والبلاد العربية لأهلها، وأنَّ من ظلم اليهودَ همُ المسؤولون عن توطينهم في بلادهم. وقد وعد الرئيس روزفلت في رسالة إلى الملك عبد العزيز بتأكيد ما تم التفاهم عليه، بأنه لن يتخذ أي مواقف تضر بالعرب في هذه القضية من دون التنسيق مع الملك عبد العزيز. وقد أخبر روزفلت مستشاره الخاص برنارد باروتش: «أنه من بين جميع الرجال الذين تعاملت معهم طوال حياتي، لم أقابل أحداً مثل هذا الملك العربي الذي لم أستطع أن أحصل منه حتى على القليل. فهذا الرجل صاحب إرادة حديدية». وآسفاه، فقد تُوفي روزفلت بعد هذا اللقاء بأقل من شهرين، وكان أن خلفه الرئيس هاري ترومان، الذي أكد الوعد الذي قطعه روزفلت على نفسه في لقائه مع الملك عبد العزيز، إلا أنه لم يلتزم بوعده لأسباب انتخابية. وكان ما كان من إعلان تأسيس دولة إسرائيل والاعتراف بها.

أكد ذلك اللقاء التاريخي أهمية العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، التي استمرت خلال العقود الثمانية الماضية، على الرغم من مرورها بمراحل وتحديات، لا سيما عندما حاولت بعض الإدارات الأميركية ممارسة ضغوط أو ابتزاز يربط المصالح الوطنية للبلدين بمصالح دول أخرى، لا سيما المصالح الإسرائيلية. لقد رسخ ذلك اللقاء التاريخي مبدأ حياد مصالحهما الثنائية المشتركة تجاه كل التوترات التي تعاني منها المنطقة، مع احتفاظهما بحق اتخاذ المواقف المستقلة في القضايا المختلف عليها، لا سيما الموقف من القضية الفلسطينية العادلة والصراع بين الدول العربية وإسرائيل. ولم تَحِد المملكة عن هذه المواقف إلى يومنا هذا.

نرى التزام المملكة بمبادئها، من عهد الجد إلى عهد الحفيد، بخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية

تذكر بعض وثائق المخابرات المركزية الأميركية أن الرئيس إيزنهاور أرسل بعثة إلى الملك سعود تركزت مهمتها في التأثير على موقفه من دعم مصر في مواجهة العدوان الثلاثي الذي أعقب تأميم قناة السويس عام 1956. وكانت مهمة تلك البعثة محاولة إقناع الملك سعود بما يشكله الرئيس عبد الناصر من تهديد، وأن على البعثة، إن لم تستطع إقناعه، تهديده بأن القوى الغربية سوف تستغني عن البترول العربي بالبحث عن مصادر أخرى، وأن الطاقة النووية التي تعمل الولايات المتحدة على تسريع جهودها لاستخدامها في صناعاتها توفر بديلاً عن النفط. لم يقتنع الملك سعود وولي عهده الأمير فيصل باتخاذ موقف مضاد للرأي العام العربي، وفي ما يتعلق بالاستغناء عن النفط كان رد الملك سعود المكتوب، الذي جاء وفق تلك الوثائق من خلال دراسة الأمير فيصل المتعمقة لموضوع الطاقة النووية، ومعرفته بأنه من المستحيل الاستغناء عن النفط. وقد قال أحد أعضاء البعثة لزملائه عند مغادرتهم: «لقد اكتشف أهل الصحراء البسطاء خدعتنا». واستمر دعم المملكة لمصر في مواقفها والوقوف إلى جانبها ضد العدوان الثلاثي عليها، الذي أعقب قرار التأميم. وقد اتخذ الرئيس كيندي مواقف لم تكن متوافقة مع مواقف المملكة، ومع ذلك احتفظ الطرفان كلاهما باستقلال مواقفهما من دون أن تتأثر العلاقات الثنائية بينهما.

لقد استخدمت المملكة، تحت قيادة الملك فيصل، سلاح النفط في عام 1973م – على الرغم من التهديدات والضغوط – لخدمة القضية العربية، ومع ذلك، لم يغب عن الولايات المتحدة الأهمية الاستراتيجية للمملكة وضرورة العودة إلى مصالحهما المشتركة، وتحييد تلك المصالح تجاه النزاعات في المنطقة؛ فتم بعدها إعادة وضع العلاقات على طريقها الصحيح، وكان أن شهد عام 1974 زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للمملكة، ومباحثاته مع الملك فيصل، وأسّست الزيارة لشراكة استراتيجية حقيقية. فقد تمّ تشكيل اللجنة السعودية – الأميركية المشتركة للتعاون الاقتصادي، التي شكلت نقلةً نوعيةً في علاقات التعاون بين البلدين في المجالات الصناعية والتجارية والقوى البشرية والزراعية والعلمية والتقنية، كما لعبت دوراً كبيراً في تطوير العلاقات بين البلدين. وقد مثّل ذلك العام علامة فارقة في العلاقات الأميركية – السعودية، إذ تم توقيع اتفاق التعاون الاستراتيجي، الذي مهد الطريق لشراكات مستقبلية ومنافع اقتصادية متبادلة، وكان جزءاً من استراتيجية أوسع لتعزيز العلاقات بين البلدين، لا سيما في سياق أمن النفط والطاقة. وقد استمرت مفاعيل هذا الاتفاق، مع كثير من التباينات بين مواقف الدولتين حيال قضايا المنطقة، لا سيما الصراع العربي – الإسرائيلي والسبل الواجب اتخاذها لحل القضية الفلسطينية.

لقد قدمت المملكة مبادرتين للسلام في المنطقة، هما مبادرة الملك فهد (1981)، ومبادرة الملك عبد الله للسلام (2002) المعروفة بمبادرة السلام العربية؛ إلا أن الولايات المتحدة لم تتعامل معهما بالجدية الواجبة، وبقيت سياستها نحو القضية الفلسطينية رهينة للإرادة الإسرائيلية التي تهيمن على القرار الأميركي في هذا الشأن.

أحداث 11 سبتمبر أدت إلى توقف هذا التوجه، ولكن بعد أن تجلى الغبار أعلن الرئيس مبادرته لحل القضية الفلسطينية في أنابوليس

وعندما كان الملك عبد الله – رحمه الله – ولياً للعهد، رأى أن الرئيس بوش ليس لديه أي اهتمام بالقضية الفلسطينية، وقبل أحداث 11 سبتمبر، أرسل إلى الرئيس بوش رسالة تفيد بأن صداقتنا أصبحت على مفترق طريق فإما أن نبقى سوياً وإما أن نفترق في الطريق. وعليه بعث الرئيس بوش وزير خارجيته كولن باول للاجتماع مع الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة في أميركا في ذلك الحين، لمعاودة الاهتمام بالقضية الفلسطينية من خلال إعلان فخامته بياناً في 12 سبتمبر 2001 حول هذه القضية.

وللأسف أن أحداث 11 سبتمبر أدت إلى توقف هذا التوجه، ولكن بعد أن تجلى الغبار أعلن الرئيس مبادرته لحل القضية الفلسطينية في أنابوليس.

لقد حاولت إدارة الرئيس أوباما الضغط على المملكة بشأن الملف الإيراني ولم تفلح، كما فعلت الأمر نفسه إدارة الرئيس ترمب الأولى وإدارة الرئيس بايدن، اللتان حاولتا دفع المملكة إلى مسار التطبيع مع إسرائيل، وربطتا إعادة العلاقات بين البلدين إلى أبعادها الاستراتيجية بالتقدم في مسار التطبيع. لكنَّ موقف المملكة ظل ثابتاً ومتمسكاً بضرورة تسوية القضية الفلسطينية من خلال حل عادل يرتضيه الفلسطينيون، قبل الشروع في الحديث حول مستقبل العلاقات مع إسرائيل.

لقد نجحت الزيارة التاريخية الأخيرة للأمير محمد بن سلمان – من خلال إرادة الجد الحديدية والدبلوماسية المكثفة – في إعادة وضع العلاقات الثنائية بمسارها الطبيعي وتحريرها من الارتباط بمصالح الآخرين. وكما ذكر الأمير محمد في البيت الأبيض؛ فالاتفاقات الموقعة بين الطرفين -التي تشمل كافة القطاعات- تخدم مصالح البلدين وحدهما، وتؤسس لاستخدام نفوذهما المشترك للعمل معاً نحو إعادة الأمن والاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط، الذي لن يتحقق من دون حل عادل للقضية الفلسطينية وتحقيق حل الدولتين الذي تعمل عليه المملكة العربية السعودية، وأن جميع الاتفاقات المعقودة لم تكن لإرضاء الرئيس ترمب، ولا هي استجابة لطلب الولايات المتحدة، وإنما هي لمصلحة المملكة العربية السعودية وشعبها في المقام الأول.

هكذا، نرى التزام المملكة بمبادئها، من عهد الجد إلى عهد الحفيد، بخاصة في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية؛ حيث أوضح الأمير محمد ذلك في رده على السؤال الصحافي الذي أُلقي عليه في البيت الأبيض، بأنه لن يكون هناك تطبيع مع إسرائيل إلا بعد إيجاد مسار واضح لحل الدولتين.