علاقات » اميركي

عن تيريزا ودونالد.. والخليج «القلق»

في 2016/12/09

لم يَبدُ الخليج العربي على هذا القدر من «الضحالة» قبلاً. فلا شيء هناك يشي بالوضوح، فيما النخب تغرق تباعاً في عمليات مكثفة لصناعة الخيارات. هكذا تظهر الأجهزة العربية الحاكمة هناك وكأنها تدخل في عصر «التحرر» مجدداً، حيث تعيد إنتاج مرحلة سبعينيات القرن الماضي باندفاع ذاتي، لتجد نفسها أمام استحقاقات جديدة وأسئلة تراها «مصيريّة»، يتعلّق بعضها بإحساس عميق بتحلل القبة الحمائية الأميركيّة التاريخيّة. علماً أن ساكن البيت الأبيض المقبل الرئيس دونالد ترامب لم يتفرغ بعد لإطلاق تصريحات «تطمينيّة» لحلفائه في المنطقة، على شاكلة تراجعاته الخطابية عن بعض الأمور «الإشكاليّة» في الداخل الأميركي. وهذا يكفي وحده لإعلان حالة طوارئ «استراتيجيّة» خليجيّة حقيقيّة، إذا ما استمر الصمت المريب في القنوات الخلفيّة المشتركة بين الخليج وواشنطن.
لم يكن صعود ترامب عاملاً وحيداً في صناعة الخوف على المستقبل. فالانتخابات الرئاسيّة الأميركية جاءت كخاتمة لسياق انحداري غير مسبوق، فيما شكلت «عقيدة أوباما» قبل ذلك المدخل الحقيقي نحو القلق على المصير. فالحديث عن الرحيل الأميركي عن الخليج لا يمكن أن يشكل رسائل سياسية مرحليّة، أو مجرد استعراض سياسي أميركي، بل هو انفتاح واضح على خيارات أخرى للأساطيل الأميركيّة ومعها «رؤيّة» جديدة لانخراط ما وراء البحار. يضاف إلى هذا فشل آخر على مستوى الاستراتيجيّة الاقتصادية المشتركة بين الأميركي ودول «مجلس التعاون». إذ دخل الطرفان في مغامرة غير محسوبة النتائج قبل عامين، هدفت للضغط على إيران وروسيا من خلال ضرب أسعار النفط عبر إغراق تدريجي للسوق، فيما جاءت النتائج بنكسة اقتصاديّة حقيقيّة ضربت الجميع، وفي مقدمهم الدول العربية المنتجة للنفط، ذات الاقتصادات «الريعيّة» الأحاديّة المدخول بالكامل.
وما بين «عقيدة الرحيل» وترامب سلسلة عثرات وازنة أفضت إلى الواقع الحالي. فالحصيلة الأوليّة لسنوات «الربيع العربي» الخمس الماضية تظهر تصدّعاً قياسياً في الرؤية الخليجيّة لطبيعة الانخراط في هذه المرحلة، والتي ارتكزت إلى عمليّة «إعادة هيكلة» الدول العربية الخاضعة لتأثيرات «الربيع» وفق أجندة أطلسيّة ـ خليجيّة. وعلى هذا المنوال جاءت نتائج حروب الوكالة في سوريا وليبيا والعراق عكسيّة وغير خاضعة حتى للمزاج الغربي. إذ شهدت سوريا والعراق تحديداً صعوداً غير مسبوق للدور الاستراتيجي الروسي في الشرق الأوسط، ارتكازاً على تحالف محليّ قوي مع إيران والعراق وسوريا و «حزب الله»، فيما أنتج «التناقض» الخليجي في إدارة الملف المصري (إضافة إلى ديناميات مصرية محليّة) حالة ارتداديّة أفضت إلى علاقات ملتبسة وخاضعة للاحتمالات والتقلبات كافة كما هو الوضع اليوم، على ألا تكون ليبيا ناتجاً خارجاً عن هذا النص، إذ ترتكز الأمور هناك على تطورات ميدانيّة يوميّة، وسط عجز الجميع عن تكوين أرضيّة ثابتة لحل طويل الأمد.
في اليمن، حيث «الحديقة الخلفيّة» الخليجية، لم تكن غلال الميزان كافية ووافية، خاصة أن التدخل هناك حمل منذ اليوم الأول لانطلاق «عاصفة الحزم» كامل الوزن الاستراتيجي الخليجي وفي مقدمته المملكة العربية السعوديّة، التي وجدت نفسها مضطرة لتفادي حروب الوكالة والانخراط بشكل مباشر في الحرب، طالما أن الشهور الأولى للانقلاب الحوثي أثمرت «هزيمة» سريعة لحلفائها في الداخل. هكذا جاءت النتيجة «رتابة» عسكرية عجز الجميع عن اختراقها في مقابل انهيار غير مسبوق لنظريّة الردع السعودي في شبه الجزيرة العربيّة، حتى اضطرت المملكة إلى رفض المبادرتين الأميركية وقبلهما الدوليّة للحل في اليمن، على اعتبار أن «الخارطتين» تضمنان إعلاناً غير مباشر لانتصار رؤية صنعاء في الحل النهائي، فضلاً عن المعضلة الاستراتيجيّة «السياديّة» التي تواجهها الرياض في استمرار سيطرة القوات اليمنيّة المشتركة على أجزاء من أراضيها منذ شهور عدة.
على هذه الصفائح الساخنة والمهتزة، استحضر قادة الخليج رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي إلى القمة الـ37 لدول «مجلس التعاون»، وكان يفترض بالجمع أن يكون «استراتيجيا» وعميقاً وهادفاً، خاصة أن المرحلة التي يمر بها الخليج اليوم يمكن أن تشكل مقدمة لصناعة مستقبله في نصف القرن المقبل، وهي فكرة لم تغب عن أذهان القادة الحاضرين في المنامة. فقد اختارت مجموعات من الشبان «الخليجيين المحليين» الاعتراض على القمة ومضامينها وضيفتها الرئيسيّة، عبر سلسلة احتجاجات «رقميّة» ضجّ بها العالم الافتراضي بما يمثل من متنفس وحيد لحريّة التعبير في تلك المنطقة في العالم. لكن الاعتراض الأقوى والأكثر دلالة كان في مملكة البحرين صاحبة الضيافة، إذ شهدت مناطق متعددة في البلد الصغير تحركات احتجاجيّة ضد القمة وعناوينها في ظل التحديات «الحقوقيّة»، وضد مشاركة رئيسة وزراء بريطانيا بما تمثله من تغطيّة أوروبيّة لانتهاكات حقوق الانسان في البحرين قبل أي مكان آخر. وهكذا جاءت عمليات إحراق العلم البريطاني والدوس عليه في جزيرة سترة وعذاري وأبوصيبع والشاخورة وكرزكان ومناطق أخرى، كدلالة على تناقضات وتحديات وطبيعة الأرض التي تحاول فيها السيّدة ماي البحث عن بديل «مالي» لمردود الأسواق الأوروبيّة بعد استكمال خروج بلادها من الاتحاد الأوروبي.
حاول الخليجيون إظهار حيّز مهم من المناورة الاستراتيجية يمكّنهم من استحضار أو تعزيز الثقل البريطاني في مواجهة المخاوف «غير المؤكدة» من طبيعة سياسات ترامب الخليجيّة، التي تتوقف حتى هذه اللحظة عند «أدبياته» المعلنة خلال الحملة الانتخابية، وفي مقدمها ضرورة دفع الخليجيين لبدلات مالية عن الحماية المقدمة لهم من واشنطن. وهو ما يظهر إصراراً من النخب هناك على السير في «الرواق» القائم على الرعاية «الأطلسيّة»، من دون الخوض في عملية جرد لحسابات الانخراط لتبيان أثر «النكسات» الإقليميّة والمحليّة على دول «مجلس التعاون». ما يعني أن المعضلات الحقيقيّة التي تتهدد الدول العربية في الخليج كانت بعيدة عن إعلان القمة، تحديداً تحديات الداخل من ملفات حقوقيّة وفي مقدمها البحرين، اضافة لصعود التيار «الإخواني» وما يمثله من تحدٍ للنخب السياسيّة الخليجية، وكذلك أزمة المديونية المستجدة وتراجع قدرة الدول المركزية على دعم أسعار السلع، فضلا عن الفواتير «القوميّة» والإقليميّة لحروب الوكالة.

عبد الله زغيب- السفير اللبنانية-