ثقافة » نشاطات

المسقي السعودية.. 17 قرناً من الحكايات تعود للحياة بقلب عسير

في 2025/08/11

متابعات

على سفوح جبال عسير، حيث تلتقي الخُضرة الداكنة مع جدران الطين العتيقة، تقف قرية المسقي التراثية كشاهد حي على سبعة عشر قرناً من الحكايات.

أزقتها الضيقة، وممراتها المسقوفة، وأبراجها المربعة، وساحاتها المفتوحة، جميعها تحكي قصة مجتمع عاش على التجارة والضيافة، وأتقن تحويل مواد الطبيعة إلى عمران خالد.

اليوم، ومع انطلاق فعاليات موسم صيف عسير 2025، تتزين المسقي من جديد، وتفتح أبوابها للزوار لتروي لهم فصولاً من تاريخها العريق، وتقدم لهم تجربة تجمع بين الأصالة وروح الحداثة.

إحياء التراث بروح العصر

وانطلقت الفعاليات، أمس الأحد، بتنظيم من اللجنة الأهلية لتطوير القرية، وذلك ضمن برنامج موسم صيف عسير لهذا العام.

وتتضمن الفعاليات عروض الفنون الشعبية، ومشاركة العديد من الحرفيين والأسر المنتجة، إلى جانب افتتاح المقهى التراثي بالقرية، ومقاهٍ عصرية بهوية عسيرية متوائمة مع الأشكال التراثية التي تتميز بها قرية المسقي التراثية.

وتهدف الفعاليات إلى إحياء الثقافة والتراث بطابع عصري يربط الحاضر بالماضي، حيث تُعد قرية المسقي التراثية من أقدم القرى في منطقة عسير، حيث تضم مواقع مبان أثرية قديمة ومواقع لممارسة الأنشطة التجارية والاجتماعية قديماً.

وفي ساحات القرية، تعالت أصوات الطبول والإيقاعات العسيرية، وارتدت الفرق الشعبية الأزياء التقليدية المطرزة، لتؤدي رقصات الخطوة والفنون الشعبية وسط تفاعل كبير من الحاضرين.

على جانب آخر، جذب المقهى التراثي أنظار الزوار بتصميمه الداخلي الذي يعكس طراز البيوت العسيرية القديمة، من الجدران الحجرية المزخرفة بالنقوش المحلية إلى الأثاث الخشبي اليدوي.

وإلى جواره انتشرت مقاهٍ عصرية بطابع عسيري، مزجت بين خدمات الضيافة الحديثة والهوية البصرية التراثية، فكانت ملتقى يجمع الأجيال المختلفة.

جغرافيا وموقع استراتيجي

تقع المسقي جنوب مدينة أبها بنحو 27 كيلومتراً، على الطريق السياحي الذي يربط المدينة بمتنزهات الشعف ودلغان والأمير سلطان والجرة والحبلة.

هذا الموقع جعلها منذ قرون محطة رئيسية على طرق القوافل المتجهة إلى الديار المقدسة وبلاد الشام، ما أضفى عليها أهمية اقتصادية وثقافية.

وقد أشار المؤرخ الحسن بن أحمد الهمداني، في كتابه "صفة جزيرة العرب"، إلى المسقي باعتبارها قرية كبيرة ذات مسجد جامع، كما ذكرها ابن الكلبي في كتابه "جمهرة النسب"، موضحاً أنها عُرفت منذ 300 سنة قبل الهجرة النبوية كمحطة للقوافل.

والقرية تمتد بطول 450 متراً وعرض 200 متر، وتضم نحو 450 منزلاً، منها 140 كان مأهولاً حتى وقت قريب. وقد بُنيت وفق تصميم هندسي مميز يعتمد على أربعة أبواب رئيسية وممرات وأنفاق داخلية تُعرف محلياً باسم "الشداخة".

وهذه الممرات المسقوفة، وعددها 21، كانت تخترق القرية طولاً وعرضاً، وتُصمم بحيث تُربك أي غريب يدخلها، ما منح سكان القرية عنصر أمان إضافياً في أوقات النزاعات، وأشهرها "شداخة بعرور" التي يبلغ طولها الإجمالي 398 متراً.

معالم دينية وجغرافيا مميزة

وفي قلب القرية، يعلو "الجامع الكبير" على ربوة عالية، بمساحة تقارب 409 أمتار مربعة، وقد شُيد بين عامي 70 و73 هـ. ما زالت البئر والبركة من بنيته الأصلية محفوظتين، شاهدتين على دقة العمارة القديمة.

وهذا المسجد اختير ضمن المرحلة الثانية من مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية، وسيعاد ترميمه ليتسع لـ156 مصلّياً مع الحفاظ على هويته المعمارية.

إلى جانبه مسجد "شاهر" أو المسجد الأعلى، الذي بُني سنة 815 هـ ولا يزال محتفظاً بطابعه التراثي، بالإضافة إلى المسجد الأسفل الذي أعيد بناؤه مؤخراً على طراز حديث محافظ على الروح الأصلية.

ولم تكن المسقي مجرد مبانٍ وأسوار؛ فقد كانت مركزاً اجتماعياً نشطاً، وساحاتها العامة أو "البسطات" كانت ملتقى الأهالي لممارسة الأنشطة الاجتماعية.

وكانت السوق الشعبية الأسبوعية التي تُقام كل يوم أحد نقطة التقاء للتجار والقوافل القادمة من نجران وجازان وتهامة. وداخل أسوار القرية، وُجد 47 محلاً تجارياً تُعرف بـ"الدكان"، تعرض سلعاً متنوعة من الحبوب إلى الأدوات اليدوية.

القرية محاطة بعدة جبال، منها جبال جريان وجريبة غرباً، وجبل لدن شرقاً. وتمر بمحاذاتها أودية متعددة مثل وادي عتود الذي يبدأ من تمنية وينتهي في وادي بيشة، إضافة إلى أودية فرعية كالعيلان والعطفة وطريفانه والعين.

ومن الناحية الدفاعية، تحتوي القرية على 67 قصبة حربية (أبراج مراقبة) وبرجين مربعين من أربعة طوابق، إضافة إلى "المحانذ" التي كانت تُستخدم للسكن وتخزين الأسلحة والحبوب. أما المياه فكانت متوفرة بفضل ست آبار داخل الأسوار، ما جعلها قرية مكتفية ذاتياً في أوقات الحصار.

إعادة إحياء السياحة التراثية

خلال السنوات الأخيرة، بدأت القرية تستعيد دورها كمقصد سياحي. تم ترميم بعض القصور الأثرية وتحويلها إلى نُزل ومقاهٍ، باستخدام مواد البناء التقليدية مثل الطين والحجارة المحلية، وإعادة توظيف الأخشاب والأحجار من المباني المتهدمة.

كما أصبحت المسقي مسرحاً لفعاليات موسم عسير، من العروض الشعبية والفنون التشكيلية، إلى عروض السيارات الكلاسيكية ومشاركة الحرفيين والأسر المنتجة. هذه الفعاليات لا تجذب السياح فحسب، بل تساهم أيضاً في تنشيط الاقتصاد المحلي وإحياء الحرف التقليدية.

المسقي اليوم ليست مجرد موقع أثري؛ إنها جزء من استراتيجية تطوير منطقة عسير ضمن رؤية المملكة 2030. ما تملكه من تاريخ عريق، وطبيعة خلابة، وبنية معمارية فريدة، يجعلها مؤهلة لتكون وجهة سياحية وثقافية بارزة، توفر للزائر تجربة تجمع بين التعلم والمتعة والاستكشاف.

زيارة قرية المسقي ليست مجرد جولة بين أطلال قديمة، بل هي رحلة زمنية تعبر القرون فمن صوت الخطوة العسيرية في الساحات، إلى رائحة القهوة العطرة في المقهى التراثي، ومن ظلال الأبراج الحجرية إلى خرير مياه الآبار القديمة، كل شيء هناك ينبض بالحياة.