سياسة وأمن » ارهاب

في التراث ما يعجل وما يؤجل

في 2016/07/14

منذ أول تفجير في المملكة قبل أكثر من عشرين سنة وكلمات التنديد والدهشة والاستغراب، وكل ما يعبر عن الغضب مما يحدث، تملأ الصحف وتردده الألسن، كل يدلي بدلوه عما يعتقد أنه السبب لما حدث ويتبرأ من الإرهاب والإرهابيين، ويكيل لهم صنوف الشتائم ويبرئ الثقافة والتراث مما يحدث، ويبدأ بعد ذلك بالبحث عن السبب فيما وراء الأعمال الإجرامية، ولا يجد في النهاية سببا مقبولا أو معقولا إلا المغرر بهم، أو الفئة الضالة، أو الأعداء، وما هو قريب من هذا المعنى. وكل يقترح الحل الذي يراه لمعالجة المشكلة ويقترح الطريقة التي ستقضي على الفتنة في مهدها وتعيد الأمن للوطن وللمواطنين على ضوء ما سبق.
ولكن قبل مناقشة ما قلنا وما سوف نقول، لا بد من الثناء على النجاح الذي حققه رجال الأمن منذ بدء الفتنة، وعلى التضحيات التي بذلوها في الأرواح وتقدير جهودهم وشكرهم على ما يحققونه في تقليل الخسائر التي يحدثها المجرمون، ومنع الكثير منها قبل أن تقع، جهود أمننا في المكافحة هي السلاح الذي واجهنا به موجات الإرهاب القاسية، وهي أعمال بطولية لا ينكرها أحد، بل هي تجربة رائعة في الصبر والكفاح والمتابعة الواعية، وما قد يحدث من اختراقات بين فينة وأخرى هو دليل على الصمود والمواجهة وليس ضعفا في كفاحهم وتضحيتهم.
بعد هذا الزمن الطويل، لم يعد الإنكار والتنديد كافيين، ولم يعد البحث عن المعاذير مقبولا، فقد أسقط المجرمون كل القيم التي تعارف عليها الناس، وانتهكوا الحرمات التي أقرتها الأخلاق والأديان والقيم الإنسانية، مثل قتل الأنفس المحرمة والأقرباء، ولم يسلم الوالدان منهم، وانتهت محاولاتهم باستباحة ما لم يفكر أحد أن يصل بهم مروقهم إلى ما وصلوا إليه في أقدس البقاع في الأرض وأشد الحرمات في الأنفس.
أعتقد أنه حان الوقت أن نبحث ما كنا نتجافى عن البحث فيه من قبل، وننتقل من التلميح والإيماء إلى الوضوح والتصريح وأن نفتش الثقافة العامة والتراث المتراكم الذي يبحث فيه هؤلاء فيجدون في طواياه ما يظنونه بررا لأعمالهم. التراث يحمل الكثير من الأضداد. في التراث العميق مرويات كثيرة وفيه أقوال أكثر تحتاج إلى مراجعة وتحتاج تجردا من العاطفة ورسوا على الواقعية العلمية بغض النظر عن ما نحب وما نكره، لقد جربنا على مدى خمسة وعشرين عاما كل الممكنات وجربنا كل الاحتمالات وجربنا التنديد والوعيد واستنفدنا كل السبل التي نود أن تجد من يسمعها أو من يستفيد منها، ولم ينفع ما جربنا في كبح عدوان الغلاة وطغيانهم وتجاوزهم للمحرمات، المستحلون للحرمات يتسلحون بسلاح المعلومة التي ينبشونها من مخزون التراث دون تمحيص أو تشكيك في صحتها، يأخذونها مسلمة تصل إلى حد اليقين القاطع الذي لا يخالطه شك عندهم ثم يطبقونها عملا، وهم متأكدون أنهم يفعلون ما هو صحيح في ظنهم، ويرون شواهده في الموروث ويسمعون تفسيره وتقريره من بعض الوعاظ والمذكرين أيضا. ثلاثون عاما ونحن نجرمهم، ونجرم أعمالهم وهم مجرمون حقا، لكننا لم نلتفت إلى قول يميز ما يجدونه مسطرا في تراث نشترك فيه جميعا ونصححه، يقول الإنجليز لمن يحلق بعيدا عن الحقيقة ويتجاهل الواقع ويبتعد عن صلب الموضوع: ارجع إلى الأرض، دعونا نرجع إلى الأرض الصلبة للثقافة، للنصوص الملتبسة والغامضة التي يصلح توجيهها وتفسيرها بأكثر من تفسير وأكثر من وجه، وتحتمل أكثر من معنى، أعرف أن الأمر صعب علينا، لكن دعونا نبحث فقط، نبحث ونميز ما يصلح لحاضرنا كما بحث وميز العلماء المسلمون على مر التاريخ.
أنا لا أريد أن أذكر النصوص الصارخة في التناقض والإبهام والإيهام التي يحملها التفسير البشري للتراث ويتلقفها هؤلاء ويعملونها بفهم خاطئ لما تعنيه أو ما يفهم من ظاهرها، لدينا كم هائل من آراء الفقهاء واختلافاتهم وتشريعاتهم وأقوالهم التي يتخذها المجرمون سندا وذريعة، لدينا حشد هائل من الدعاء والتحريض على الناس في كل جمعة بلغة مبهمة تفهم على أكثر من معنى، لدينا مسافة طويلة قطعها التراث تؤجل فيها أشياء وتناقش فيها أشياء، أما الإرهابيون فلا يعرفون هذه المسافة من التأجيل أو التعطيل، ولكنهم يعجلون ما يؤجل ويوظفون ما يعطل وهم مطمئنون مما يفعلون.
مرزوق بن تنباك- مكة السعودية-