متابعات-
ردد العديد من مراقبي الشأن السعودي سؤالا في تعليقهم على الرواية الرسمية لمقتل اللواء "عبدالعزيز الفغم"، الحارس الشخصي للملك "سلمان بن عبدالعزيز"، باعتبارها محاطة بالعديد من الشواهد على كذبها، ومليئة بالثغرات في ذاتها.
ونصت الرواية، التي أعلنتها شرطة مكة، على أن اللواء "الفغم" قتل عندما كان في زيارة لصديقه "تركي بن عبدالعزيز السبتي"، بمنزله في حي الشاطئ بمحافظة جدة، إذ دخل عليهما صديق لهما يدعي "ممدوح بن مشعل آل علي"، وأثناء الحديث تطور النقاش بين "الفغم" و"علي"، ليخرج الأخير من المنزل، ويعود وبحوزته سلاح ناري، ويطلق النار على الفغم" ويرديه قتيلا.
وبحسب الرواية، فإن إطلاق النار أدى إلى إصابة اثنين من الموجودين في المنزل، وهما شقيق صاحب المنزل "تركي بن عبدالعزيز السبتي"، وأحد العاملين "جيفري دالفينو ساربوز ينغ" من الجنسية الفلبينية، وعند مباشرة الجهات الأمنية للموقع الذي تحصن بداخله الجاني، بادرها بإطلاق النار رافضا الاستسلام، لتطلق عليه القوات النار وترديه قتيلا هو الآخر.
لكن تفنيد تفاصيل الرواية يفضي إلى "ثغرات" لا تبيان لها بحسب وصف المشككين فيها، الذين تساءلوا عن سبب وجود قوات الأمن السعودية أصلا خارج المنزل (مسرح الجريمة) أثناء لقاء بين أصدقاء؟ وعن سبب عدم حصول أي وسيلة إعلام محلية لأي إفادة من مصابي الحادث (الصديق السعودي والعامل الفلبيني) حتى الآن؟
وإذ لا يقدم بيان شرطة مكة إجابة على هذه التساؤلات، وسط استمرار حالة الصمت المطبق من جانب وسائل الإعلام السعودي بشأن مصابي الحادث، اعتبر الناقدون أن الرواية الرسمية للجريمة تفتقر إلى التماسك المنطقي، وتنطوي على شبهة محاولة لإخفاء حقيقة الجريمة، خاصة في ظل مقتل القاتل "ممدوح آل علي".
فمقتل الجاني يعني قطع أي خيط لمعرفة الدوافع الحقيقية للجريمة ومن يقف وراءها، كما أن إخفاء الشهود عن أي حضور إعلامي يعني، حسب المشككين، المطلوب هو "حصرية" اعتماد رواية الجريمة الواردة في بيان شرطة مكة دون غيرها.
وضاعف من هذه الشكوك شواهد أخرى أحاطت برواية الجريمة الرسمية، تصب في اتجاه تقديم الدليل على كذبها.
وتتمثل هذه الشواهد أولا في صدور ذات تفاصيل الرواية الرسمية للجريمة قبل ساعات من نشرها ببيان شرطة مكة عن حساب "تويتر" لمصدر غير رسمي، يصنفه متابعو موقع التدوينات القصيرة باعتباره أحد قادة "الذباب الإلكتروني"، ويدعى "بن عويد 2030".
والذباب الإلكتروني مصطلح يطلقه معارضو النظام السعودي على شبكة حسابات – بعضها وهمية – تستهدف إغراق "تويتر" بالهجوم على "أعداء المملكة" وتأييد حكامها، ويعتقد أن وراءها "سعود القحطاني"، المستشار السابق بالديوان الملكي، المقرب من "بن سلمان"، وأحد من وجهت لهم أصابع الاتهام بجريمة اغتيال الكاتب الصحفي "جمال خاشقجي" داخل قنصلية المملكة بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018.
ويكشف تفحص الحساب عن رصد تجاوز متابعيه لأكثر من 750 ألف شخص رغم كونه تابعا لشخصية غير مشهورة، إضافة إلى تسخير كل تغريداته لهدف واحد هو الدفاع عن ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" والهجوم على قطر وقناة الجزيرة وكل معارضي نظام الحكم بالمملكة.
وإزاء ذلك طرح المراقبون سؤالا: من يكون "بن عويد" لتصله تفاصيل مقتل "الفغم" قبل صدورها عن الجهات الأمنية بساعات؟
وبإضافة أن الصورة الوحيدة لمحيط المنزل الذي وقعت فيه الجريمة لم تنشر إلا عبر حساب "بن عويد 2030" أيضا، يمكن استنتاج عملية "تسريب مقصودة" لتفاصيل مقتل "الفغم".
وتظهر الصورة عربات أمنية وعددا من عناصر الشرطة، دون أن يقدم صاحب الحساب إجابة على التساؤل بشأن سبب وجودها أصلا خارج المنزل وقت زيارة "الفغم" المزعومة لصديقه.
ثاني شواهد التشكيك في رواية الجريمة الرسمية، هي تلك التغريدة التي نشرها ابن عم حارس الملك "بداح بن طلال الفغم" فور تداول التفاصيل الواردة بحساب "بن عويد" عبر "تويتر"، وأكد فيها أن "جميع ما ذكر من تفاصيل (بشأن الجريمة) غير صحيح".
ثم عاد "بداح الفغم" لينشر، عبر "تويتر"، إعلانا بتفاصيل الجريمة تماما كما وردت في حساب "بن عويد" ثم في بيان شرطة مكة، دون إشارة إلى ما سبق أن نفاه.
ليس هذا فقط، بل إن صيغة الإعلان الوارد في حساب ابن عم حارس الملك "سلمان" جاءت متطابقة مع تلك التي نشرها الأقارب من عائلة "الفغم" جميعا، وجاء نصها: "رحم الله اللواء عبدالعزيز بداح الفغم بعد مقتله حينما كان في منزل صديقه على يد صديق ثالث لهما غدرا وذلك مساء يوم أمس السبت، الحمدلله، رجل تشرف بخدمة وطنه وملوكه عن قرب والشرف لنا جميعا بعد ذلك".
فهل يعقل اتفاق أبناء عائلة "الفغم" على صيغة موحدة للنعي ونشرها بشكل متزامن؟ سؤال عزز من شكوك المراقبين بشأن الرواية الرسمية للجريمة، وجاء النعي الذي نشره والد القاتل "مشعل آل علي" ليزيده أضعافا مضاعفة.
ترحم عضو مجلس الشورى السعودي السابق على "الفغم" واصفا إياه بأنه "ابن الأوفياء"، في حين وصف ابنه (ممدوح) بأنه "غادر"، ووجه له رسالة مفادها أنه بقتله لحارس الملك سلمان رفعه إلى مقعد علي بعد أن كان في الدنيا ملازما لولي الأمر، مشددا على أن كل السعوديين دروع للملك "سلمان"، دون أن يذكر كلمة واحدة يترحم فيها على ابنه أو يظهر فيها أي عاطفة إنسانية.
بدا ذلك غير منطقي أيضا لدى العديد من المراقبين، ليتجه بعضهم إلى ترجيح توزيع صيغة النعي الموحدة من جانب الجهة المنفذة لقتل "الفغم" بطريقة تشبه في سذاجتها تلك التي أديرت بها جريمة اغتيال "خاشقجي" من قبل.
ويدور هذا الترجيح حول افتراض مفاده أن مقتل "الفغم" لم يكن عارضا، بل كان عملا مخابراتيا مخططا له بعناية، وهو ما ذكره حساب "مجتهد" الشهير عبر "تويتر"، المعروف بنشره تغريدة يقول إنها لكواليس الحكم بالسعودية.
وتحدث "مجتهد" عن رواية أخرى لمقتل "الفغم"، وهي أنه كان في القصر الملكي وقت الحادث، وليس مع صديق، مشيرا إلى أن "بن سلمان" كان يعتبر "الفغم" من الحرس القديم الذي يوالي آل سعود عموما ولا يثق بإخلاصه له شخصيا، وردد أكثر من مرة رغبته في إبعاده عن القصر.
وأضاف أن "عبدالعزيز الفغم" و"ممدوح آل علي" (الذي زعمت الرواية الرسمية أنه القاتل) قـُتلا سويا من قبل مجموعة أخرى.
وعضدت صحيفة "القدس العربي" من هذا الترجيح، عندما نقلت عن مصادر سعودية أن مقتل "الفغم" مرتبط بحرب اليمن واستياء ضباط كبار بالجيش السعودي من تصرفات ولي العهد.
وأوضحت المصادر أن الملك "سلمان" يتابع أخبار المملكة لمدة ساعة فقط يوميا لأن المرض أنهكه وبالكاد يكون صاحيا لمدة ساعتين ثم يقضي باقي اليوم بين المسكنات والنوم، ولذا كلف "الفغم" بإخباره بالأوضاع الحقيقية للبلاد، ومنها حرب اليمن، بعدما فقد الثقة في محيطه، خاصة بعد واقعة اغتيال "خاشقجي".
ويتعرض هذا المحيط لضغط كبير من "بن سلمان" لتقديم الأخبار التي يختارها هو نفسه (ولي العهد) إلى الملك، بحسب المصادر، ولما كان "الفغم" منتويا نقل الأوضاع الحقيقية لحرب اليمن والهجمات على منشآت شركة النفط العملاقة "أرامكو" إلى الملك أقدم ولي العهد على تصفية الحارس الوفي لوالده.
ويرى مرجحو هذه الرواية أنها أكثر تماسكا من الناحية المنطقية، خاصة مع إعلان الترتيبات الجديدة حول الملك، بتعيين العميد "سعيد القحطاني" حارسا شخصيا بدلا من "الفغم".
و"سعيد القحطاني" من عائلة "سعود القحطاني"، وليس الوحيد بالحرس الملكي، بل تم تعيين عدة أشخاص آخرين بترشيح من مستشار "بن سلمان" المقرب، بحسب "مجتهد".
لكن رواية إسناد الجريمة إلى فريق ولي العهد السعودي لا تزال مفتقرة إلى تأكيد موثوق لتفاصيلها، حتى إن بدت تفاصيلها أكثر منطقية من الرواية الرسمية، وتعاضد القرائن الدالة عليها، ما يجعل الجزم بصحتها غير ممكن.
وأيا ما كانت تفاصيل الجريمة، فالمؤكد أن ثمة حلقات مفقودة في روايتها الرسمية على الأقل، وضبابية تبدو مقصودة حول تفاصيلها، وأن وراء الأكمة ما وراءها.