في 2025/12/04
جاسم عجاقة
لا يمكن للمراقب إلا ملاحظة التحوّل الاستراتيجي الكبير في دور صناديق الثروة السيادية لدول مجلس التعاون الخليجي، وبخاصة صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وجهاز أبو ظبي للاستثمار الإماراتي، والقابضة القطرية، والتي أصبحت من أكبر الصناديق تمويلا في العالم، وأكثرها استراتيجية وتوجيها في العالم.
فهذه الصناديق التي تدير أصولاً مجمعة بتريليونات من الدولارات، تمارس بالإضافة إلى تحقيق عوائد عالية، توجيها لرؤوس الأموال المستثمرة، إذ إن أبسط تمويل لشركة ناشئة هو جزء من استراتيجية تحول اقتصادي وطني، تهدف إلى ضمان قوة وازدهار دول الخليج. إنهم أصحاب القرار الدوليون الجدد، وتأثيرهم في تصاعدٍ مستمر.
التحول الكبير
لعل أكثر ما يُلفت في هذه الصناديق، خصوصا في العامين الماضيين، هو فقدانها التركيز على التنويع، واستبداله بالسيطرة الاستراتيجية. فتقليديا، كانت هذه الصناديق تستثمر في استثمارات دولية آمنة وعالية الجودة، إلا أن الاستثمارات الجديدة هي استثمارات مشتركة مخصصة مواءمة، مع الأهداف الوطنية الخليجية الطموحة (مثل رؤية السعودية 2030). وبحسب أرقام dakota.com، خصصت دول الخليج في العام 2024 أكثر من 136 مليار دولار أميركي، أي ما يشكّل 54 في المئة من إجمالي رأس مال جميع صناديق الثروة السيادية حول العالم. هذه الاستثمارات تتزايد مع الوقت، وأصبحت تستهدف أسواقا أكثر أهمية لاقتصاد القرن الحادي والعشرين.
واللافت أكثر في هذه الاستثمارات، هي سعيها وراء قدرات الذكاء الاصطناعي السيادي من خلال مليارات الدولارات، لإنشاء شركات وطنية وضمان تحالفات استراتيجية، بهدف الحصول على سلسلة قيّمة متكاملة للذكاء الاصطناعي. وكترجمة لمواءمة الاستثمارات مع الأهداف الوطنية الطموحة، أطلق صندوق الاستثمارات العامة السعودي مبادرات مثل HUMAIN، وهي قوة ذكاء اصطناعي مدعومة حكوميا تهدف إلى غرس اللغة والثقافة العربية في أنظمة الذكاء الاصطناعي عالية التقنية. من جهتها تعمل شركات إستثمارية إماراتية (مثل مبادلة وADQ) على تعزيز مجمعات مراكز البيانات العملاقة وإبرام صفقات عالية الحيوية مع قوة التكنولوجيا الأميركية العظمى (مثل مايكروسوفت وNVIDIA) لبناء بنى تحتية محلية وسيادية للذكاء الاصطناعي. وهو ما يظهر كأمن قومي أكثر منه نموًا اقتصاديًا.
وفي مجال الطاقة، تستثمر هذه الصناديق بقوة في مستقبل الطاقة الخضراء، على الرغم من سيطرتها في مجال الهيدروكربونات. وتتراوح الاستثمارات بين شراء حصص في أنظمة الطاقة الخضراء الأوروبية، وبناء أكبر مصانع إنتاج الهيدروجين الأخضر في العالم في الخليج. وهو ما يجعل دول الخليج تخطوا خطوة كبيرة نحو تحوّلها لمركز طاقة نظيفة عالمي.
الخليجيون.. مهندسو البنية التحتية العالمية
مما لا شكّ فيه أن رأس المال الخليجي ، يُعيد هيكلة التجارة العالمية وسلسلة التوريد من خلال سد الفجوة التمويلية، التي تسبب بها مستثمرون تقليديون وبالتحديد غربيون وصينيون. فدول الخليج أصبحت بوابة التمويل الرئيسية بين آسيا وأفريقيا، على مثال الإمارات العربية المتحدة التي تسعى إلى أن تكون أكبر مستثمر في أفريقيا يتفوق على الصين، ويساهم تنويع اقتصادها المحلي، وقطاعاتها التكنولوجية المتقدمة المستقبلية، وذلك من خلال توجيه الأموال إلى قطاعات الخدمات اللوجستية والزراعة وسلاسل توريد المعادن الحيوية. ويحمل هذا الاستثمار طابعا جيوسياسيا قويا، ويمنح دول الخليج نفوذا كبيرا في الاقتصادات الأفريقية الرئيسية.
أسيويا، تُعدّ الصفقات الضخمة في عدد من الدول الأسيوية (الهند وإندونيسيا والصين) دليلا قاطعا على مدى استعداد دول الخليج لضمان مصالحها في عالم جيوسياسي منقسم بشكل كبير. وتتناول الاستثمارات في آسيا التحول في مجال الطاقة والبنية التحتية الرقمية مما يُرسّخ مكانة المنطقة كمركزٍ لأكثر أسواق النمو حيويةً على مستوى العالم.
وفي مصر، تستثمر شركة ADQ مساعدات واستثمارات هائلة بمليارات الدولارات لسداد الديون السيادية وإنشاء مشاريع عقارية ضخمة. وهذا إن دلّ على شيء يدلّ على كيفية استخدام رأس المال كوسيلةٍ لإنقاذ الدول عبر التمويل والإصلاحات المكثّفة لجعل اقتصاد الدولة المتلقية يتمشى مع أولويات الدول الخليجية، مما يعود بمنافع مالية ونفوذ استراتيجي.
وبالتالي أصبحت الصناديق السيادية الخليجية لاعبا جيوسياسيا جوهريا وعامل استقرار اقتصادي في كل منطقة تشملها هذه الاستثمارات.
السياسة والحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية
لم يعد كافياً أن يقدّم مديرو الأصول العالميون عروضاً مالية جذابة لاستقطاب رؤوس الأموال الخليجية الضخمة. فقد بات من الضروري أن يكون هناك فهم عميق للسياق الجيوسياسي، والتزام صارم برؤى الدول الخليجية الوطنية وأهدافها الاستراتيجية. لم تعد هذه الصناديق السيادية مجرد مستثمر سلبي (passive)، بل أصبح يبحث عن «شراكات» حقيقية وليس مجرد منتجات مالية. ولهذا، تُفرض شروط مثل هياكل استثمارية مخصصة، وحقوق مشاركة فعلية في اتخاذ القرار، واستثمارات ضخمة (مئات الملايين إلى مليارات الدولارات) ما يمنحهم نفوذاً مباشراً على الشركات والمشاريع التي يستثمرون فيها.
أضف إلى ذلك، باتت هذه الصناديق تضع معايير صارمة في ما يخص الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG). ولا يعكس هذا التوجّه فقط التزامها باستثمارات مسؤولة وطويلة الأجل، بل يشكّل أيضاً آلية تضمن توجّه الاستثمارات نحو شركات قوية، مستدامة، وقادرة على التكيّف مع التحوّلات الكبرى.
التحديات المستقبلية والحبل الجيوسياسي المشدود
رغم قوتها المالية، تواجه صناديق الثروة السيادية الخليجية تحديات هيكلية معقّدة. ففي عالمٍ يزداد فيه التوتر الجيوسياسي، بات من الصعب أكثر من أي وقت مضى الحفاظ على توازن دقيق بين علاقات قوية مع الولايات المتحدة وأوروبا، لضمان الأمن العسكري والوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة من جهة، ومن جهة أخرى بناء «شراكات» استراتيجية مع قوى اقتصادية صاعدة مثل الصين والهند للاستفادة من أسواقها الواسعة وسلاسل تجارتها.
لكن هذا التوازن يواجه عراقيل متزايدة، بخاصة مع تشديد الغرب لقيوده على الاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحساسة (التكنولوجيا مثلًا)، ما يجعل صفقات بمليارات الدولارات عُرضة للتعقيد أو حتى الإلغاء في بعض الأحيان.
في المحصلة، من الواضح أن العرب، وبخاصة الخليجيين، حجزوا لهم موقعا في الساحة الجيوسياسية العالمية كمقرّرين ومهندسين للعالم، يحفظ مصالح الدول الخليجية ويعود بالفائدة على الدولة المتلقية للاستثمارات، ويُعطيها استقرارا اقتصاديا مستداما.