في 2025/08/25
أسماء إسماعيل
في الوقت الذي تسعى فيه المملكة العربية السعودية لتكريس حضورها كقوة إقليمية فاعلة، من خلال التدخل النشط في ملفات المنطقة، تتجاهل عن عمد الانتهاكات الجسيمة والمستمرة لحقوق الإنسان داخل حدودها، خصوصاً حقوق العمال المهاجرين.
وبينما تصدّر الرياض خطاباً سياسياً يدعو إلى «السيادة» و«الاستقرار الإقليمي»، تضع تقارير موثقة صورة المملكة الداخلية في دائرة الإدانة الأخلاقية، وسط بيئة تشهد تضييقاً على الحريات واستغلالاً ممنهجاً للعمال تحت غطاء مشاريع طموحة مثل «رؤية 2030» و«كأس العالم 2034».
انتهاكات جسيمة في ملف العمالة
نشرت منظمة العفو الدولية، في أيار 2025، تقريراً بعنوان «Locked in, left out»، وثّقت فيه شهادات أكثر من 70 عاملة منزلية كينية تعرضن لانتهاكات جسيمة في السعودية، تضمنت العمل لأكثر من 16 ساعة يومياً دون راحة، الحرمان من الأجور، الاعتداء الجنسي والجسدي، مصادرة الهواتف وجوازات السفر، وحرمان بعض العاملات من التواصل مع عائلاتهن أو العودة إلى بلادهن. وصف التقرير هذه الشهادات بأنها «صادمة»، ووضعها ضمن سلسلة طويلة من الانتهاكات الممنهجة التي طالت عمالاً من كينيا وإثيوبيا والفيليبين ونيبال.
ورغم أن هذه الانتهاكات موثقة على مدى عقدين كاملين، وعلماً أن نظام الكفالة خضع لإصلاحات دخلت حيز التنفيذ في آذار 2021 تحت عنوان «مبادرة تحسين العلاقة التعاقدية»، فإن السلطات السعودية لا تزال متمسكة بهذا النظام، الذي يمنح أصحاب العمل سلطة شبه مطلقة على العمال، ويحوّلهم إلى ضحايا محتجزين في دائرة من الاستغلال دون حماية قانونية فعالة، فيما اقتصرت الاصلاحات على السماح للعمالة الوافدة بالانتقال بين الوظائف والحصول على تأشيرات الخروج والعودة أو الخروج النهائي دون الحاجة لموافقة الكفيل، لكن ضمن شروط محددة.
ومع ذلك، لا تزال سلطات الكفيل قائمة في عدة مجالات، كما أن فئات واسعة مثل العمالة المنزلية والسائقين والحراس والرعاة والعمال الزراعيين مستثناة من هذه الإصلاحات، ما يعني استمرار خضوعها للنظام التقليدي، فيما تؤكد منظمات حقوقية أن التعديلات لم تُعالج جذرياً هيمنة الكفيل أو توفر حماية شاملة للعمالة الأكثر عرضة للاستغلال، رغم إدراج هذه الخطوات في إطار «رؤية 2030» الهادفة إلى تحسين بيئة العمل وزيادة مرونتها.
وفي تقرير صادر عن منظمة «هيومن رايتس ووتش» في أيار 2025، كُشف النقاب عن وفيات عشرات العمال نتيجة ظروف عمل مميتة داخل ورش البناء. الحوادث تضمنت الصعق الكهربائي، السقوط من ارتفاعات شاهقة، وحتى قطع الرأس بآلات صناعية، في ظل غياب شروط السلامة، ولامبالاة واضحة من أرباب العمل والمؤسسات الرسمية.
في الفترة عينها، وثّقت منظمة «FairSquare » وفاة 17 عاملاً نيبالياً خلال الأشهر الـ18 السابقة، من دون فتح أي تحقيق مستقل، فيما أبلغت سفارتا الهند وبنغلاديش أن 74% من وفيات العمال الهنود و80% من وفيات البنغلاديشيين صُنّفت على أنها «طبيعية»، دون أي فحص جنائي أو تحقيق رسمي، ما يكشف تجاهلاً ممنهجاً لحقوق الضحايا وذويهم.
في إحدى الحالات، رفض صاحب عمل إعادة جثمان عامل بنغالي توفي نتيجة صعق كهربائي، مشترطاً على عائلته دفنه في السعودية مقابل مبلغ تعويضي رمزي. أما شهادات أخرى لعائلات نيبالية وبنغلاديشية فقد وثّقت إجبارهم على دفع تكاليف إعادة الجثامين أو القبول بتعويضات مالية ضئيلة مقابل دفن العمال في السعودية.
إصلاحات «شكلية» وتحذيرات من «تكلفة إنسانية» محتملة
رداً على تفاقم الأوضاع، تقدّمت نقابات من 36 دولة، بما فيها الاتحاد الدولي لنقابات العمال (ITUC)، بشكوى رسمية إلى منظمة العمل الدولية (ILO) في حزيران 2025، طالبت بفتح لجنة تحقيق أممية مستقلة حول أوضاع العمال المهاجرين في السعودية، ووصفت الإصلاحات السعودية بأنها شكلية وغير كافية، خاصة في ظل تزايد الانتهاكات المرتبطة بالمشاريع العملاقة المرتبطة بالمونديال، باعتبارها، أي الإصلاحات، لا ترتقي إلى المعايير الدولية ولا تحمي العمال من السرقة والعمل القسري والعقود المزورة والاعتداء الجسدي والجنسي.
وأوضح الأمين العام للاتحاد لوك تراينغل أنه «لا يمكننا أن نتسامح مع وفاة عامل مهاجر آخر. الإصلاحات يجب أن تكون جذرية وتشاركية، لا تجميلية وانتقائية».
فعلى الرغم من تفعيل نظام «مدد» لحماية الأجور من قبل وزارة الموارد البشرية السعودية في تموز 2025، والذي يهدف لرصد تأخير الرواتب والاقتطاعات غير القانونية، إلا أن منظمات حقوقية مثل «العفو الدولية» و«هيومن رايتس ووتش» انتقدت هذا الإجراء بشدة، معتبرة إياه شكلياً في ظل غياب إجراءات شاملة لحماية العمال، واستمرار ممارسات غير قانونية كمصادرة الجوازات، التسريح التعسفي، وساعات العمل الطويلة.
بينما تستعد فيه المملكة لاستضافة كأس العالم 2034، صعّدت السلطات السعودية من حملاتها الأمنية ضد العمال المهاجرين، حيث أعلنت وزارة الداخلية، بين 24 و30 تموز 2025، عن توقيف 22,147 شخصاً، منهم 13,835 مخالفة إقامة، 4,772 مخالفة لأمن الحدود، و3,540 مخالفة لأنظمة العمل. كما تم اعتقال 1,816 شخصاً أثناء محاولتهم دخول البلاد بطرق غير نظامية، معظمهم من إثيوبيا واليمن، مع ترحيل 11,000 شخص خلال أسبوع واحد فقط.
العقوبات المفروضة على الموقوفين تراوحت بين السجن حتى 15 سنة وغرامات تصل إلى مليون ريال سعودي (266 ألف دولار) ومصادرة الأصول والتشهير العلني. وقد وصفت منظمات حقوقية هذه الحملات بأنها أكبر موجة اعتقالات ممنهجة منذ سنوات، معتبرة أنها «ترهيب جماعي» يهدف إلى كسر أي مقاومة داخلية في صفوف العمال المهاجرين.
ومع دخول السعودية سباق الاستعدادات لمشاريع ضخمة مثل مدينة «نيوم» الذكية الداعمة لرؤية «2030» واستضافة كأس العالم 2034، تصاعدت الانتقادات الدولية حيال ما وصفته تقارير حقوقية بـ«تكلفة إنسانية باهظة»، وتحذيرات من آلاف الوفيات المحتملة جراء الحرارة المرتفعة وظروف العمل القاسية، في ظل مشاريع ضخمة ومتنوعة.
ورغم وعود «الفيفا» بـ«الالتزام بمعايير منظمة العمل الدولية»، إلا أنه لا توجد لجنة رقابية مستقلة في السعودية على غرار ما قامت به قطر في مونديال 2022، وهو ما أكدته مديرة المبادرات العالمية في «هيومن رايتس ووتش»، مينكي ووردن، قائلة إن «ما من إجراءات ملموسة حتى الآن تضمن الحماية من الحوادث أو التأمين على الحياة».
وفي سياق موازٍ، أرسل فريق محامين دوليين في أيار 2025، شكوى من 30 صفحة إلى «الفيفا»، اتهموا فيها المنظمة بـ«الفشل في الالتزام بمعاييرها الحقوقية»، بسبب منح السعودية شرف الاستضافة رغم علمها بالانتهاكات المستمرة.
السعودية في لبنان: سياسات عقابية وضغوط مباشرة
في الوقت الذي تعاني فيه السعودية من هذا السجل الحقوقي الثقيل داخلياً، تواصل التدخل العلني في الشأن اللبناني، متخذة من حزب الله وبيئته هدفاً دائماً لتحريضها السياسي والإعلامي، عبر ممارستها ضغوطاً اقتصادية ومالية مستمرة على بيروت، إلى جانب محاولات التأثير عبر موفديها على النخب السياسية والإعلامية.
واتخذت الرياض خلال السنوات الأخيرة إجراءات عقابية، أبرزها وقف المساعدات المالية أو ربطها بخيارات سياسية محددة، وتزامناً، أطلقت حملات إعلامية لتشويه صورة المقاومة، متجاهلة، ومستهدفة، دور حزب الله في التصدي للعدوان الإسرائيلي المتكرر، وتمثيله لشريحة واسعة من المواطنين اللبنانيين.
وتراوحت الضغوطات بين:
الضغط المالي المباشر عبر ربط المساعدات والإعانات المالية للمؤسسات اللبنانية بخيارات سياسية محددة، أبرزها تحجيم حزب الله ونزع سلاحه.
التأثير على الجالية اللبنانية في الخليج من خلال تضييق العمل والفرص أمام اللبنانيين المقيمين، أو فرض شروط للضغط على عائلاتهم في الداخل.
التدخل الإعلامي الموجه بإطلاق حملات إعلامية مكثفة لتشويه صورة حزب الله وبيئته السياسية، مع الترويج لفكرة «اختطاف الدولة اللبنانية» من قبل الحزب.
الضغط على النخب السياسية والإعلامية عبر تمويل أحزاب أو مجموعات معينة، أو ممارسة ضغوط مباشرة وغير مباشرة على الوزراء والنواب لضمان تبني سياسات متوافقة مع «رؤية» الرياض الإقليمية.
إلى جانب تلك الضغوطات، سخّرت المملكة ما يقارب 41.3% من مجموع المقالات الصادرة في الصحف السعودية والتي تطرقت فيها إلى ملف لبنان وحزب الله وسلاحه، بصيغة إملاءات وتعليمات سياسية مموهة، وذلك في الفترة الواقعة بين 9 نيسان و11 آب 2025.
وبينما تسوّق لحداثة مزعومة وتُنفق مليارات الدولارات على صفقات السلاح وتبذل جهوداً للعبث في لبنان وسوريا واليمن، أو لبناء مدينة ذكية، تمتنع المملكة عن تخصيص جزء بسيط من هذه الأموال والجهود لتحسين ظروف ملايين العمال الذين يبقون بلا أي حماية قانونية، تقيهم شر ظروف وأرباب العمل.